من رحلة الغرناطيّ

"

"وَبِالْقُرْبِ
مِنْ دُرَبَنْدَ جَبَلٌ عَظِيمٌ فِي أَسْفَلِهِ قَرْيَتَانِ فِيهِمَا أُمَّةٌ
يُقَالُ لَهَا: "زِرِهْ كَارَانْ"، يَعْنِي: "صُنَّاعَ
الدُّرُوعِ"، يَتَّخِذُونَ الآلاَتِ جَمِيعَهَا لِلْحُرُوبِ مِنَ الدُّرُوعِ
والْجَوَاشِنِ[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
والْخُوَذِ والسُّيُوفِ والرِّمَاحِ والْقِسِيِّ والنُّشَّابِ والْخَنَاجِرِ
وجَمِيعِ أَنْوَاعِ آلاَتِ النُّحَاسِ. جَمِيعُ نِسَائِهِمْ وأَوْلاَدِهِمْ
وبَنَاتِهِمْ وعَبِيدِهِمْ وإِمَائِهِمْ يَتَّخِذُونَ هَذِهِ الصَّنَائِعَ
كُلَّهَا ولَيْسَ لَهُمْ حَرْثٌ ولاَ بَسَاتِينُ. وهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ خَيْراً
ومالاً. يَقْصِدُهُمُ النَّاسُ بِجَمِيعِ النِّعَمِ مِنْ جَمِيعِ الآفَاقِ.
ولَيْسَ لَهُمْ دِينٌ ولاَ يُعْطُونَ جِزْيَةً. وإِذَا مَاتَ لَهُمْ مَيِّتٌ، إِنْ
كَانَ رَجُلاً، سَلَّمُوهُ لِرِجَالٍ فِي بُيُوتٍ تَحْتَ الأَرْضِ يَقْطَعُونَ
أَعْضَاءَ الْمَيِّتِ ويُنَقُّونَ عِظَامَهُ مِنَ اللَّحْمِ والخ، ويَجْمَعُونَ
لَحْمَهُ فَيُطْعِمُونَهُ لِلْغِرْبَانِ السُّودِ، ويَقِفُونَ بِالْقِسِيِّ يَمْنَعُونَ
غَيْرَهُمْ مِنَ الطَّيْرِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ لَحْمِهِ شَيْئاً. وإنْ كَانَتْ
امْرَأَةً، سَلَّمُوهَا إِلَى رِجَالٍ تَحْتَ الأَرْضِ يُخْرِجُونَ عِظَامَهَا
ويُطْعِمُونَ لَحْمَهَا لِلْحِدَأَةِ ويَقِفُونَ بِالنُّشَّابِ يَمْنَعُونَ
غَيْرَهَا أَنْ يَدْنُوا مِنْ لَحْمِهَا.

وقَدْ قُلْتُ لِلأَمِيرِ (إِسْفَهْسَلاَرَ[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]) عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فِي دُرَبَنْدَ: كَيْفَ يَتْرُكُونَ هَذِهِ الأُمَّةَ
لاَ يُسْلِمُونَ ولاَ يُؤَدُّونَ جِزْيَةً ولاَ خَرَاجاً؟ فَقَالَ:
"إِنَّهُمْ حَسْرَةُ الْمَلِكِ! وقَدْ أَمَرَنِي الأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
مُحَمَّدُ بْنُ خَلِيفَةَ السُّلَمِيُّ صَاحِبُ دُرَبَنْدَ رَحِمَهُ اللهُ –وكُنْتُ
رَأَيْتُهُ وأَكْرَمَنِي جازَاهُ اللهُ خَيْراً- قَالَ: فَخَرَجْتُ وجَمَعْتُ
أُمَماً مِنَ الأَتْرَاكِ وغَيْرِهِمْ وخَرَجَ الأَمِيرُ فِي أَهْلِ دُرَبَنْدَ
وجَاءَتِ الأُمَمُ مِنَ الْجِبَالِ مِنَ اللَّكْزَانِ والْغِيلاَنِ وغَيْرِهِمْ
وكُنَّا فِي عَسْكَرٍ كَالْبَحْرِ، فَقَصْدَنا تِلْكَ الْقَرْيَتَيْنِ ولَيْسَ
لَهُمْ حِصْنٌ ولا قَلْعَةٌ فَأَغْلَقُوا أَبْوَابَهُمْ -فَأَنا أَوَّلُ مَنْ
دَخَلَ الْقَرْيَةَ الْوَاحِدَةَ- فَخَرَجَ مِنْ تَحْتِ الأَرْضِ جَمَاعَةُ
رِجَالٍ لَيْسَ عَلَيْهِمْ سِلاَحٌ فَوَقَفُوا وأَشَارُوا بِأَيْدِيهِمْ إِلَى
الْجِبَالِ وتَكَلَّمُوا بِكَلاَمٍ لَمْ أَفْهَمْهُ ثُمَّ غَابُوا تَحْتَ الأَرْضِ
فَأَصَابَنَا مِنَ الرِّيحِ الْبَارِدَةِ والثَّلْجِ الْعَظِيمِ بِحَيْثُ لاَ
نُبْصِرُ شَيْئاً، وكأَنَّ السَّمَاءَ سَقَطَتْ عَلَيْنَا ثَلْجاً وبَرْداً
فَانْصَرَفْنَا لاَ نَدْرِي أَيْنَ نَذْهَبُ، لا أَنَا ولاَ غَيْرِي، وقَتَلَ
بَعْضُنَا بَعْضاً بِصَدْمِ الْفَرَسِ الْقَوِيِّ لِلْفَرَسِ الضَّعِيفِ فَيَقَعُ
هُوَ وَراكِبُهُ فَيَمْشِي عَلَيْهِ النَّاسُ فَيَهْلَكُ هُوَ وفَرَسُهُ."قال:
"وضَرَبَنِي مَنْ لاَ أَعْرِفُ بِنُشَّابَةٍ فِي مَنْكِبِي الأَيْسَرِ
فَخَرَجَتْ مِنْ تَحِتْ إِبِطِي فَكِدْتُ أَنْ أَهْلَكَ وتَمَاسَكْتُ حَتَّى
بَعُدْنَا عَنْهُمْ فَرَاسِخَ وانْكَشَفَ عَنَّا ذَلِكَ الثَّلْجُ والرِّيحُ
والْبَرْدُ وفَقَدْنَا مِنَ الْعَسْكَرِ خَلْقاً كَثِيراً. فَأَخْرَجْتُ
النُّشَّابَةَ مِنْ مَنْكِبِي وبَقِيتُ مِنْهَا مَرِيضاً أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ.
ولَمْ نَقْدِرْ أَنْ نَأْخُذَ مِنْهُمْ رَغِيفاً وَاحِداً ولاَ قَاتَلْنَا
مِنْهُمْ أَحَداً، وما ذَاكَ إِلاَّ مِنْ سِحْرٍ مِنْ أُولَئِكَ الرِّجَالِ
الَّذِينَ يُخْرِجُونَ عِظَامَ الْمَوْتَى، ويَجْعَلُونَ عِظَامُهُمْ فِي أَكْيَاسٍ:
الأَغْنِيَاءُ والسَّادَةُ أَكْيَاسُهُمْ مِنَ الدِّيَباجِ الْمُذَهَّبِ
الرُّومِيِّ، والْعَبِيدُ والإِمَاءُ فِي الْخَامِ وشِبْهِهَا مِنَ الثِّيَابِ،
ويُعَلِّقُونَهَا فِي الْبَيْتِ ويَكْتُبُونَ عَلَى كُلِّ كِيسٍ اِسْمَ صَاحِبِهِ."
وهَذَا عَجَبٌ عَظِيمٌ!

من رِحلةِ أَبِي حامِدٍ الْغَرْناطِيّ (القرن
12)

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] الْجَوْشَنُ :
اسم الحديد الذي يُلبَس من السلاح.

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] أسْفَهْسَلار: معناه مقدم العسكر وهي وظيفة من
وظائف أرباب السيوف وعامة الجند وصاحبها زمام كل زمام وإليه أمر الأجناد وهي كلمة
أعجمية معناها قائد الجيش. وكان صاحب هذه الوظيفة في عهد حكم الترك بمصر يسمى ساري
عسكر وفي زماننا يسمى سردارا (صبح الأعشى 3/479.)