قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في (( بدائع الفوائد )) (3/1133-1135) .
تأمل الحكمة في التشديد في أول التكليف ثم التيسيـر في أخره ، بعد توطين النفس على العزم والامتثال ، فيحصل للعبد الأمران : الأجر على عزمه وتوطين نفسه على الامتثال ، والتيسيـر والسهولة بما خفف الله عنه.
فمن ذلك : أمر الله تعالى رسوله بخمسين صلاة ليلة الإسراء ، ثم خففها ، وتصدق بجعلها خمساً (1) .
ومن ذلك : أنه أمر أولاً بصبر الواحد للعشرة ، ثم خفف عنهم ذلك إلى الاثنين (2) .
ومن ذلك : أنه حرم عليهم في الصيام إذا نام أحدهم أن يأكل بعد ذلك أو يجامع ، ثم خفف عنهم بإباحة ذلك إلى الفجر (3) .
ومن ذلك : أنه أوجب عليهم تقديم الصدفة بين يدي مناجاة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فلما وطّنوا له أنفسهم على ذلك خففه عنهم (4) .
ومن ذلك تخفيف الاعتداد بالحول بأربعة أشهر وعشرا (5) .
وهذا كما قد يقع في الابتلاء بالأوامر ، فقد يقع في الابتلاء بالقضاء والقدر ، يشدد على العبد أولا ثم يخفف عنه ، وحكمة هذا تسهيل الثاني بالأول ، وتلقى الثاني بالرضي ، وشهود المنة والرحمة.
وقد يفعل الملوك ببعض رعاياهم قريبا من هذا ، فهؤلاء المصادَرُون يُطلب منهم الكثيـر جداً الذي ربما عجزوا عنه ، ثم يحطّونه إلى ما دونه لِـتُـطَـوِّع لهم أنفسهم بَـذْلـَـهُ ويسهل عليهم .
وقد يفعل بعض الحمالين قريبا من هذا ، فيزيدون على الحمل شيئا لا يحتاجون إليها ، ثم يحط تلك الأشياء فيسهل حمل الباقي عليهم .
والمقصود أن هذا باب من الحكمة خلقاً وأمراً ، ويقع في الأمر والقضاء والقدر أيضا ضد هذا ، فينقل عبادَه بالتدريج من اليسير إلى ما هو أشد منه ؛ لئلا يفجأها التشديد بغتة ، فلا تحتمله ولا تنقاد له ، وهذا لتدريجهم في الشرائع شيئا بعد شيء ، دون أن يؤمروا بـها كلها وهلة واحدة ، وكذلك المحرمات .
ومن هذا أنـهم أُمروا بالصلاة أولاً ركعتين ركعتين ، فلما ألِفُوها زِيد فيها ركعتين أخريين في الـحَـضَـر (6) .
ومن هذا أنـهم أمروا أولاً بالصيام وخُـيِّـروا فيه بين الصوم عَـيْـناً ، وبين التخيـيـر بينه وبين الفدية ، فلما ألفوه أمروا بالصوم عَـيْـناً (7) .
ومن ذلك : أنـهم أُذِن لـهم بالجهاد أولاً من غير أن يُـوجَب عليهم ، فلما توطنت عليه أنفسهم ، وباشروا حُسْنَ عاقبته وثمرته أمروا به فرضاً.
وحكمة هذا : التدريج والتربية على قبول الأحكام والإذعان لها ، والانقياد لـها شيئاً فشيئاً .
وكذلك يقع مثل هذا في قضائه وقدره ، يُـقَـدِّر على عبده بلاء لابد له منه ، اقتضاه حمده وحكمته فيبتليه بالأخف أولاً ، ثم يُـرَقِّـيـه إلى ما هو فوقه حتى يستكمل ما كتب عليه منه .
ولـهـذا قد يسعى العبد في أول البلاء في دفعه وزواله ، ولا يزداد إلا شدة ، لأنه كالمرض في أوله وتزايده ، فالعاقل يستكين له أولاً ، وينكسر ويذِل لربه ، ويمد عنقه خاضعاً ذليلاً لعزته ، حتى إذا مر به معظمه وغَمْرته ، وآذن ليله بالصباح ، فإذا سعى في زواله ساعدته الأسباب ، ومن تأمل هذا في الخلق انتفع به انتفاعاً عظيمًا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى .