الحـــقـــيــقــة
• من الدلالات إلى الإشكالية
• . الحقيقـة و الـواقـع
• أنـواع الحقيقـة
• الحقيقـة بمـا هـي قيمـة
. مـن الدلالات إلـى الإشكـاليـة:
تستعمل الحقيقة في الحياة اليومية بمعاني كثيرة و متعددة و لكن كلها تحيل إلى الواقع باستثناء كلمة حق حينما تستعمل للدلالة على الذات الإلهية أو إحدى صفاتها و لا تختلف الدلالة الفلسفية عن المعاني المتداولة فهي كذلك تتصف بالتعدد و الاختلاف تبعا للمجالات المعرفية التي تستخدم فيها.
و إذا عدنا إلى المعجم الفلسفي "لالاند" نجده يعرف الحقيقة كما يلي: [ الحقيقة خاصية ما هو حق، (القول المطـابق للواقع)، و هي القضية الصـادقة، و ما تحت البـرهنة عليه و شهادة الشاهد الذي يحكي ما فعله أو رآه، و الشيء الأصيل في مقابل المزيف ].
إن الحقيقة بمفهومها المعاصر تنحصر في مجال الفكر (الحكم) و الخطاب أو الكلام (القضية).
لكـن مادامت الحقيقة هي مطـابقة الحكـم للـواقع، فإن هذا الأخيـر يظل مـرجعا للحقيقة و من هنا يمكن طرح الإشكاليات التالية: ما علاقة الحقيقة بالواقع ؟ و هل هي مجرد صورة للواقع منعكسة في الفكر و معبرا عنها باللغة ؟ هل الحقيقة ذاتية أم موضوعية مطلقة أم نسبية ؟ و هل توجد الحقيقة بمعزل عن أضدادها ؟ أم أنها متلازمة معها ؟ و هل الحقيقة مسألة تخص العقل وحده ؟ أم تتدخل فيها الأهواء و الرغبات و الغرائز ؟ و أخيرا من أين تستمد الحقيقة قيمتها ؟
الحقيقـة و الـواقـع:
يدل مفهوم الواقع في اللسان العربي على ما هو ثابت و حاصل فعلا، أما في اللسان الفرنسي فيدل على ما ينتمي إلى الشيء أو إلى الموضوع، أما في الفلسفة كلمة الواقع تتحدد من خلال ما هو مناقض لها كالخيال و الوهم و الممكن و المعقول و الظاهري و الاسمي، أما في مجال العلوم التجريبية فيدل على ما هو معطى في التجربة و على مجموع الوقائع العينية الحاضرة أو الماضية.
ما علاقة الحقيقة بالواقع محددا على هذا النحو ؟ و إذا كان مفهوم الحقيقة يتضمن ما هو معطى ثابت قار و يقيني فهل الواقع تنطبق عليه هذه الخصائص ؟.
إن التجربة تبين على أن الواقع متغير و متحول إن لم يكن بصورة مطلقة فعلى الأقل بشكل نسبي. إن هذا هو الأساس الذي تقوم عليه إشكالية العلاقة بين الحقيقة و الواقع في شقيها أو جانبيها، الحقيقة كمرادف للواقع و الحقيقة كمطابقة الفكر بالواقع.
سنتناول الجانب الأول من هذه الإشكالية: الحقيقة بما هي واقع، فإذا كان ما يجمع بين الحقيقة و الواقع هو الثبات و الهوية.
لما كان الواقع يظهر في التجربة الحسية متغيرا، فما هي مختلف الأطروحات التي حاولت حل هذه الإشكالية ؟.
وجود واقع ثابت حقيقي، مفارق للواقع الحسي [ أفلاطون ] .
وجود واقع حقيقي محايث للواقع الحسي و حامل له [ أرسطو ] .
نفي الحقيقة عن الواقع و جعلها في الفكر وحده [ ديكارت ] .
إنكار إمكانية وجود الحقيقة و بلوغها على نحو مطلق . [ الشك المنهجي: نيتشه ] .
إمكانية وجود حقيقة نسبية و متغيرة [ الفلسفة الحديثة و العلوم المعاصرة ] نجد الأطروحة الأولى عند أفلاطون الذي يعتبر أن هناك نوعا من الواقع أو الوجود، هناك عالم المثل و هو عالم الموجودات أو الأشياء الحقيقية التي تتميز بالثبات و البساطة و الخلود، و هناك عالم المحسوسات أو عالم الأشياء و الموجودات المتغيرة التي يعتبرها أفلاطون مجرد صورة مشوهة لما يوجد في عالم المثل، فالحقيقة في نظره إنما ترتبط بما هو ثابت و لا يوجد ذلك إلا في عالم المثل ، أما المعرفة المرتبطة بالعالم المادي فهي معرفة متغيرة أو في أقصى الأحوال معرفة ظنية.
إلا أن هذه الثنائية التي يقيمها أفلاطون بين عالم المثل و عالم المحسوسات أدت بأرسطو إلى طرح التساؤل التالي: كيف يمكن أن يكون ما هو مادي محسوس نسخة مما هو لا مادي معقول و مجرد ؟
إن هذا التساؤل سيدفع أرسطو إلى إعادة النظر في الأطروحة الأفلاطونية فإذا كان الواقع الحسي ليس هو الواقع الحقيقي فإن الحقيقة لا توجد خارجه بل هي محايثة لأن المتغير لا يتغير إلا على أساس ما هو ثابت، فمثلا فإننا نعتبر الشجرة على أنها تمثل مظاهرها عبر الفصول، فوراء الأغـراض الحسية [ الصفات المتغيـرة ] جواهـر ثابتة تشكـل الواقع الحقيقي و لكن الأغراض تحفظ بدرجة من الحقيقة و الواقعية لأنها تشكل الوسيط الذي لا بد منه لإدراك الجواهر [ الصفات الثابتة ] إلا أن تدخل الحواس في عملية المعرفة و إنتاج الحقيقة سيدفع ديكارت إلى اعتبار أن التجربة الحسية قد تشكل عائقا في بلوغ الحقيقة و لذلك فيعتبر ديكارت أن لا بد من تجاوز التجربة الحسية لبلوغ الحقيقة بالعقل وحده.
إن ديكارت فيعتبر أن إنتاج الحقيقة شأن يخص العقل وحده، فالحقيقة إذن لكـي تكون كذلك لا بد أن تكون عقلية خالصة، و لكـن كيف ينتج العقل الحقيقة ؟ على أي أساس يعتمـد ؟ و ما هو المنهج الذي يمكن من ذلك ؟.
إن العقل يتضمن مبادئ فطرية على أساسها يمكن أن يفكر في جميع المواضيع دونما حاجة إلى الاعتماد على التجربة الحسية مادامت هذه الأخيرة خداعة و لا يمكن الوثوق بها.
و لهذا دعا ديكارت إلى الاعتماد على العقل من خلال اللجوء إلى ما يعرف بالشك المنهجي، إنه شك في المعرفة الحسية و في كل معرفة موروثة لم ينشأها العقل نفسه انطلاقا من المبادئ الفطرية المتضمنة فيه، و لهذا دعا ديكارت إلى الشك في جميع المعارف من أجل إعادة بناءها على أسس عقلية و لهذا صارت الحقيقة بالنسبة لديكارت هي ما ينتهي إليه الشك و ليس ما تعطيه لنا الحواس، فالحقيقة إذن مرادفة لما هو بديهي و واضح عقليا أو ما لا يعود قابلا للشك، إن ما توصل إليه ديكارت من اعتبار الحقيقة ذات طبيعة عقلية خالصة يطرح إشكالية جديدة عرفت في الفكر الفلسفي إشكالية المطابقة بمعنى إذا صارت الحقيقة عقلية خالصة، فكيف يمكن أن تنشأ مطابقة تلك الحقيقة للواقع ؟.
و أي واقع تكون تلك الحقيقة مطابقة له، هل هو الواقع الحسي المشكوك فيه و الذي لا يحمل حقيقته في ذلك بل يستمدها من واقع آخر مفارق له.
إن إشكالية المطابقة تقتضي أن يكون الشيئان متماثلان و من نفس النوع بحيث ينطبق أحدهما على الآخر، في حين أن الأمر ليس كذلك فيما يتعلق بكل من الحقيقة و الواقع، ذلك أن الحقيقة ذات طابع فكري مجرد، أما الواقع فقد يكون ماديا أو لا ماديا، و من هنا تطرح إشكالية المطابقة من جديد: كيف يمكن أن يكون ما هو لا مادي متطابقا مع ما هو مادي ؟
لحل هذه الإشكالية العويصة لجأ ديكارت و سبينوزا إلى فكرة الضمان الإلهي بمعنى أن الله الخالق للعالم و للإنسان هو الضامن لتطابق الفكر و الواقع و ما يدركه العقل على أنه حقيقة فهو كذلك.
ضد هذا التصور المرتكز على فكرة الضمان الإلهي سيقدم كانط أطروحته التالية: إن الحقيقة لا توجد لا في الفكـر و لا في الـواقع على نحو مسبق و جاهز، بل يتم بنـاؤها من مادة و صورة.
إن كل معارفنا تبتدئ بالحواس، فالتجربة الحسية تزودنا بما يسميه كانط مادة المعرفة أي ما ستعلق بأشكال الأشياء و ألوانها و أحجامها و توالي الظواهر أو تآنيها أو تعاقبها و لكن هذه المعطيات تبقى مفككة و غير منظمة، و لهذا لا بد من تدخل العقل بما يتضمنه من مفاهيم حتى يعطي لتلك المدركات الحسية طابعا منظما من خلال استعمال مجموعة من المفاهيم مثل الوحدة و الكثرة و العلاقات السببية.
أنـواع الحقيقـة:
إذا كانت الحقيقة مرتبطة باللغة و الخطاب، فإن هذا الأخير يتخذ أشكالا متنوعة بحسب المجال المعرفي الذي يتضمنه و لهذا يمكن القول إن الحقيقة لا وجود لها في صيغة المفرد بل إنها تتعدد بتعدد مجالات المعرفة، و هكذا يمكن الحديث عن حقيقة دينية و فلسفية، علمية، تاريخية، سياسية... إلا أن الغاية من إنتاج الحقيقة هي تبليغها للآخر و محاولة إقناعه بهذه الحقيقة، و يعد البرهان العقلي أو المنطقي منذ أرسطو أعلى أشكال إثبات الحقيقة لأن هذه الأخيرة حينما تتم البرهنة عليها تصير يقينية لا تحتمل الشك و الجدل.
غير أن أبا الوليد ابن رشد يبين أن اختلاف طبائع الناس و اختلاف قدراتهم المعرفية تقتضي اختلاف طرق تبليغ الحقيقة للناس و هذا ما أثبته ابن رشد من خلال تحليله للطرق التي اعتمدها القرآن أو الخطاب الإلهي في تبليغ الحقيقة فرأفة من الله بعباده خاطبهم على قدر مستـوياتهم المعـرفية، فالقـرآن يتضمن ثلاث طـرق لتبليـغ الحقيقة: هنـاك الأسلوب الخطـابي و يتضمن الوصف و ضرب الأمثال و أسلوبي الترهيب و الترغيب.
هناك الطريقة الجدلية : و هي موجهة لتلك الفئة من الناس التي كانت لها معرفة بالقضايا العقائدية (كالرهبان و الأحبار) و الذين كانوا يجادلون في بعض الحقائق الواردة في القرآن مثل (قيام الساعة و البعث).
هناك الطريقة البرهانية : و هي خاصة في نظر ابن رشد بالرسخين في العلم أي أهل البرهان و هي طريقة تعتمد على التأويل بإرجاع ما هو متشابه في القرآن إلى ما هو محكم مع ضرورة توفر شروط التأويل التي هي نفسها شروط الاجتهاد.
إن ما يقال عن الحقيقة الدينية إنما يمكن أن ينطبق على الحقيائق مهما اختلف مجالها ذلك أن الخطاب الديني نوع من أنواع خطابات الحقيقة فكل حقيقة يراد تبليغها للناس و إقناعهم بها يقتضي بالضرورة مراعاة مستوياتهم المعرفية و قدراتهم الإدراكية.
إن الحقيقة إذن تتسم بطبيعة الخطاب الذي يتضمنها و بالشخصية المنتجة لهذا الخطاب، هذا الارتباط بين الشخصية و أشكال الخطاب يمنحها سلطة و نفوذا لا يقومان على الحجـج التـي تقوم عليها الحقيقة بـل يتأسسان علـى سلطة الانحـراف الذي تمارسه الشخصية، و بذلك تحل هذه الأخيرة محل الحجج و البراهين التي ينبغي أن تقوم عليها الفريضة، و يمكن القول إنه في كل مجتمع نظام متكامل لإنتاج الحقيقة و فرضها و رسم حدودها مثلا هيمنة الخطـاب العلمي فـي المجتمعات المعاصرة الذي يستطيع بلـوغ حقيقة دقيقة و ناجعة أي لا يمكن الشك فيها، غير أن الخطاب العلمي و تاريخ العلم نفسه يثبت أن الحقيقة العلمية لا توجد بمعزل عن أضدادها، و أول أشكال اللاحقيقة هو الخطأ، فإذا تذكرنا الحقيقة من حيث هي مطابقة الفكر للواقع فإننا سنجد أن هناك أحكام و نظريات ظلت تعد حقائق ثابتة من ذلك أن الأرض هي مركز الكون و أن الكواكب الأخرى تدور حولها.
إن العلم لا يتقدم إلا بقدر ما يزيح من الأخطاء فالحقيقة العلمية في نظر باشلار ما هي إلا خطأ يتم تصحيحه.
و للحقيقة ضد آخر يلتحق بها ألا و هو الوهم فإذا كان الخطأ نتيجة لسوء استخدام العقل، فإن الوهم يشكل موضوع رغبة و لهذا من الصعوبة بمكان اكتشافه و التخلص منه.
و الـوهم فـي نظـر نيتشه ناتـج عن مصـدرين أساسيين: الأول حاجة الإنسان إلى السلـم و المسالمة من أجل حفظ البقاء و تجنب حالة الحرب الدائمة و المستمرة، لذلك فإن الإنسان لا يستخدم عقله إلا للإخفاء و الكذب و ليس لكشف الحقيقة و قولها و خاصة إذا كان الأمر يتعلق بما يشكل خطرا على حياته.
أما المصدر الثاني للوهم فهو اللغة، ذلك أن أصلها لا عقلي بل هو الاستعارة و التشبيه و المجاز فاللغة لا تنقل الواقع كما هو بل إنما تعتمد على المكونات اللغوية، و بما أن أصل اللغة لا عقلي فلا يمكن إنتاج معرفة عقلية و موضوعية عن الواقع و المعرفة في آخر المطاف إنما ترتبط بذات الإنسان و سعيه للحفاظ على بقائه و النتيجة هي أن الحقيقة في نظر نيتشه إن هي أوهام تم تحويلها إلى قيمة مقدسة بسبب نسيان أنها وهم و ضلال.
القيمة : الحكم الذي نسنده لأمر ما
الحقيقـة بمـا هـي قيمـة:
نتساءل في هذا المحور عن قيمة الحقيقة و من أين تستمد هذه القيمة ؟
أن تكون الحقيقة قيمة معنى ذلك أنها ما يرغب فيه الإنسان و يسعى إليه نحوه بقصد أو بغير قصد سواء على مستوى الفكر النظري أو الممارسة العملية أو بسلوك الأخلاق، و إذا كانت الحقيقة من حيث هي قيمة فكرية و أخلاقية فقد اعتبرت في الفلسفة الكلاسيكية غاية في حد ذاتها و بالتالي كان التفكير الفلسفي يعتبر بحثا عن المعرفة و الحقيقة المجردة عن كل منفعة أو مصلحة.
إلا أن الاتجاه البراغماتي (النفعي( للفلسفة المعاصرة سيعتبر أن قيمة الأفكار تتحدد بما تحققه من منافع، و لهذا سيعتبر ممثل هذا الاتجاه ويليام جيمس أن الحقيقة ينبغي أن تكون قيمة عملية و وسيلة لتحقيق المنفعة، إلا أن الانتقال الرئيسي الذي يوجه لهذا التصور النفعي هو أنه يؤدي إلى نسبيتها و اختلافها باختلاف مصالح الأفراد و الجماعات بمعنى إذا كانت الحقيقة هي ما ينفعني فقد تكون مضرة للآخرين و من ثمة قد تتحول الحقيقة إلى نقيضها.
غير أن بركسون في شرحه لفلسفة ويليام جيمس يبين أن الأمر لا يتعلق بإقرار نسبية الحقيقة بالمعنى اللاأخلاقي و إنما أراد ويليام جيمس أن يقدم بديلا عن المفهوم التقليدي للحقيقة غير أن هذا التأويل لا يلغي في نظر كانط البعد اللاأخلاقي لربط المنفعة بالحقيقة لأن ذلك يسمح في نظره بارتكاب الشرور و المظالم في حق الآخر مادام في ذلك نفع و فائدة، يصف تصور كانط للحقيقة باعتبارها غابة في ذاتها و واجبا أخلاقيا ذا بعـد إنساني حقيقـي لأن إنتـاج الحقيقة و قولها يعتبر أمرا غير مشروط.
و لهذا فهو يعتبر أن الكذب و لو على إنسان واحد يضر بالإنسانية جمعاء لأنه يحطم أساس التواصل و التفاهم و الاحترام المتبادل بين البشر
و قد أكد أفلاطون على لسان سقراط في محاورة جورجياس أن الحوار هو الضامن للحقيقة أي أن ما يضمن موضوعية الحقيقة و كونيتها هو تبادل الحجج و البراهين دون خطابة أو بـلاغة أو مغالطة لأن جميـع هـذه الوسـائل تشـل فعـالية العقـل و تخاطب العـواطف و الأهـواء و تحول الكذب و شهادة الزور إلى حق و تجعل الإجماع و التبعية غاية لها بدل البرهان و الحرية و الاستقلال و النزاهرة التي تظل شروطا أخلاقية للحقيقة تضمن قيمتها و طبيعتها الكونية
الســــــــــــعادة
• من الدلالات إلى الإشكالية
• السعادة إرضاء للبدن أن للعقل أم للقلب ؟
- من الدلالات إلى الإشكالية:
إن لفظ السعادة يختلف مدلوله باختلاف تمثل الناس له فمنهم من يربط السعادة بالمال، أو بالصحة، بالسلطة أو العرف و الأخلاق أو في انسجام الأسرة.
مفهوم السعادة إذن يتضمن الأبعاد التالية: هناك البعد المادي و البعد الاجتماعي و البعد المعنوي، و على هذا الأساس فإن السعادة تتجلى في ثلاث مستويات:
• المستوى المادي و يتمثل في الإشباع و تلبية مختلف الحاجات في جميع أشكالها.
• و هناك المستوى المعنوي العقلي و يتجلى في التسيير و التدبير.
• و هناك المستوى الوجداني الشعوري و يتمثل في الرضا الذي يشعر به الفرد عند إنجازه لعمل ما.
و في هذا الإطار يمكن طرح التساؤلات التالية:
• هل تعتبر السعادة وليدة الصدفة ؟ أم أنها نتيجة مجهود لابد من بذله ؟
• هل السعادة ممكنة في الأرض أم أنها لا تتحقق إلا في العالم الآخر ؟
• و هل يمكن قيام سعادة فردية في غياب السعادة الجماعية ؟
إن الإجابة عن هذه التساؤلات مرتبط بمفهوم الحكمة كما حددها الفلاسفة المسلمون، و لهذا سنعالج مفهوم السعادة من خلال مواقفهم.
رجوع
السعادة إرضاء للبدن أن للعقل أم للقلب ؟
لقد حدد الفلاسفة المسلمون لفظة سعادة من خلال التأكيد على مسألتين أساسيتين: ضبط مفهوم اللذة هل هي جسدية أم عقلية مع تحديد أيهما أفضل، يقول الأصفهاني « اللذة هي إدراك المشتهى و الشهوة انبعاث النفس لنيل ما تتشوقه » أما من حيث المفاضلة فإن اللذة العقلية أفضل من اللذة الجسدية المحتقرة لأن هذه الأخيرة يشارك فيها الحيوان و الإنسان و لهذا فالسعادة لا ترتبط بالمستوى الحسي للذة بل إن أشرفها هي تلك المرتبطة باللذة العقلية.
إن تفضيل اللذة العقلية على اللذة الحسية سيجعل من السعادة خيرا على الإطلاق لأنها خالية من المنفعة و لا تلحق أي ضرر، و لهذا فهي تطلب لذاتها دون أن يتضرر منها أي شخص بخلاف المجالات الحسية التي قد تلحق الضرر بالآخرين.
إن هذا الموقف يرتبط بالتصور العام للفلاسفة المسلمين الذين ميزوا في الإنسان بين ما هو جسدي و ما هو عقلي و اعتبروا أن الجانب العقلي هو الجانب الأرقى لأنه يتسم بالطهارة، و بالتالي فإن الإنسـان لا يمكنـه أن يحقـق السعـادة إلا مـن خـلال انفصـاله مـن خـلال شهـواته و نـزواته و رذائله و هذا الموقف عـامة نجده لدى الفـلاسفة اليـونان و خصـوصا عند سقـراط و أفلاطون، و على هذا الأساس يربط الفرابي الشقاء الإنساني بذلك التداخل الحاصل بين النفس الطـاهرة و دنـاسة البـدن، و الإنسان في نظره يقترب من السعادة كلما استطاع أن يطهـر نفسه و يفصلها عن كل الشهوات لأنه لا يجني من هذه الأخيرة إلا الشر و الشقاء.
و في نفس السياق يؤكد "ابن مسكويه" على ضرورة تهذيب الأخلاق و ذلك عن طريق الفصل المحقق للنفس عن الجسد لأنهما من طبيعتين مختلفتين و متناقضتين، فالنفس في نظره عبارة عن جوهر بسيط غير محسوس، أما الجسد فطبيعته مادية و لهذا فالنفس أشرف و أرقـى مـن الجسـد و تتمثل فضيلتها في طلب العلم و المعرفة و كلما ازداد اشتياق النفس للعلوم و المعارف كلمـا تحقق السعـادة و اكتمـال الإنسان و تجـرده عن كل ما هو محسوس و ابتعـاده عن العامة و البسطـاء و من ثم تظهر المعادلة التالية لدى الفلاسفة المسلميـن و العـرب: اتبـاع الجسد و إشباع الشهـوات و اللذات الحسية نجـده لـدى العـالة و البسطـاء أما اتبـاع العقـل و تطهيـر النفس من النـزوات و طلب العلـم و المعـرفة و تحصيل السعادة نجده لـدى العلماء و الراسخين.
نستنتج من هذا أن ارتباط العقل أو النفس بالعلوم أو المعارف يؤدي إلى تحصيل الحكمة التي هي أسمى تجليات العقل البشري، و هي الطريق الوحيد الذي يمكن من تحقيق السعادة إلا أن السؤال الذي يطرح في هذا المجال هو: كيف يمكن تحقيق هذه السعـادة ؟ و ما هـي الأدوات التي تعتمد لتحقيقهـا ؟.
فبما أن السعادة النظرية يتحدد موضوعها في الوجود بصفة عامة أي البحث في الوجود الإلهي بطبيعتها و صفاتها و وجود العالم و الوجود الإنساني فهناك طريقان منهجيان لتحقيق السعادة: طريق أهل البرهان و النظر العقلي و هم الفلاسفة و طريق أهل العرفان و هم المتصوفة؛
• فبالنسبة للفلاسفة يتم تحقيق السعادة فلسفيا عن طريق الانتقال من العالم السفلي إلى العالم العلوي أي عالم العقول المنفصلة عن الماديات و هذه المرتبة لا يحققها إلا الفلاسفة.
• أما بالنسبة لأهل العرفان أي المتصوفة فإنهـم يحققـون السعادة عـن طـريق الإشـراق و الحضرة الإلهية و الأساس هو مجاهدة الجسد و كبح الرغبات و الابتعاد عن الدنيا، إن طريق السعادة لديهم لا يتم بالعقل و إنما يتم بالباطن عن طريق إشراق النور الإلهي في قلب المتصوفة.
إلا أن السؤال المطروح و الذي يفرض نفسه هو هل يمكن أن تتحقق السعادة في التجربة الفردية فقط أم أن لها بعدا اجتماعيا ؟
الشـــخـــصـــيـــــة
• مـن الـدلالات إلـى الإشكـاليـة
• الشخصيـة و أنظمـة بنـائهـا
• الشخص و دوره فـي بنـاء الشخصيـة
مـن الـدلالات إلـى الإشكـاليـة
تتحدد الشخصية في تصور العامة اعتمادا على المظاهر الخارجية القابلة للملاحظة كالجاه أو النفوذ أو الثروة أو السلطة، إنها محددات تعتبر بمثابة معايير تقوم عليها المكانة الاجتماعية للشخص، و لكن كما يتحدث العامة عن الشخصية يتحدثون أيضا عن انعدامها حينما يميل الشخص إلى الميل للخضوع و الاستسلام، و إذا عدنا إلى لسان العرب نجده أيضا يركز على المظاهر الخارجية القابلة للملاحظة، ذلك أن معنى الشخص في اللغة العربية يدل على كل جسم ضخم و بدين و بذلك يكون ظاهرا، أما في اللغة الفرنسية فكلمة personne و personnalité مشتقتان من اللاتينية persona التي تدل على ذلك القناع الذي كان يرتديه الممثل ليتناسب مع دوره في المسرحية.
أما إذا عدنا إلى المعاجم المتخصصة روبير، لاروس، لالاند، فنجد أن الشخصية تتحدد من خلال معنيين؛ معنى عام و مجرد، فهي تدل خاصية الكائن الذي يكون مسؤولا أخلاقيا أو قانونيا على أفعاله، و المعنى الثاني معنى مادي محسوس و يتمثل في الخاصيات الأخلاقية السامية التي تميز الشخص عن مجرد كونه فردا بيولوجيا، و بذلك تشكل هذه الخاصيات العنصر الثابث و المنظم في سيرته، الشيء الذي يجعله متميزا عن غيره.
إن الشخصية إذن لها طابع عام و مشترك بين جميع الكائنات البشرية من حيث مسؤوليتها الأخلاقية و القانونية، و من ثم فهي لا ترتبط بالمكانة الاجتماعية، كما أن لها طابعا خاصا يتجلى في مجموع الصفات التي تميز الشخص عن غيره تمييزا واضحا رغم ما يشترك فيه من صفات مع الآخرين، كما أنها محددة زمنيا لارتباطها بتاريخ الفرد و تخضع لسيرورة نمو عبر مراحل معينة.
إن الشخصية عبارة عن وحدة بنيوية معقدة يتفاعل فيها بيولوجي طبيعي مع ما هو نفسي معرفي و اجتماعي ثقافي و إبداعي، فهي نتاج لتفاعل هذه العوامل المجتمعة فهي بنية دينامية تتجلى عبر تمظهرات خارجية [ الجانب الفزيولوجي الجسمي و السلوك الخارجي ]، و تقوم في أساسها على خصوصية الشخص و تكيفه بصورة ملائمة مع محيطه.
إن هذا يقتضي أن نحدد الفرق ما بين الشخص و الشخصية و هل يمكن القول أن الشخصية مرادفة للشخص أم أن هناك فرقا جوهريا بينهما، إن هذا الاختلاف هو ما تحـدده الـدلالتين الفلسفية و العلمية:
أ- الدلالة الفلسفية: إن الحقل الدلالي الفلسفي لمفهوم الشخصية يتأسس على التصور الفلسفي للإنسان كشخص باعتباره ذاتا تعي وجودها و حريتها و تتمتع بالإرادة و تشعر بالمسؤولية و تدرك ما هو ثابت في وجودها الشيء الذي يجعل منها ذاتا مجردة، و من ثم يكون الشخص هو الجوهر و الماهية في حين تصبح الشخصية ذلك المظهر الخارجي الذي يعكس حقيقة الجوهر.
ب- هذا التمييز بين الشخص و الشخصية سيتبلور بشكل أكثر وضوحا مع العلوم الإنسـانية، و ستعتبر الشخصية مجرد نمط أو نموذج نظري ينشأه العالم من أجل فهم و تفسير سيرة الشخص و سلوكه.
و هذه الأنظمة الثلاثة هي:
1- نظـام الشخص من حيث هو عضوية بيـولوجية و ذات واعية مسؤولة أخـلاقيا و قانونيا عن أفعالها.
2- النظام النفسي؛ فالإنسان له حياة نفسية تنمو و تتطور تبعا لمراحل نموه الجسمـي و النفسي و بما يعرفه هذا الأخير من أزمات و ما يراكمه من خبرات و تجارب.
3- النظام الاجتماعي: إن الفرد لا يعيش منعزلا عن الاخرين بل يدخل في علاقات متعددة معهم ضمن محيط سوسيو ثقافي لكونه يعيش داخل أشكال من التنظيمـات و المؤسسات الاجتماعية و الثقافية.
هذه الأنظمة الثلاثة تتفاعل فيما بينها بالإضافة إلى أنظمة أخرى اقتصادية و سياسية لتعطي للشخصية طابعها البنيوي المعقد و تجعل منها مفهوما متعدد الدلالات يختلف باختلاف الحقول المعرفية و الخطابات التي تستعمل ضمنها بل و قد تتعدد داخل الخطاب الواحد، من هنا يتبلور مفهوم الشخصية كمفهوم إشكالي يقوم على مفارقات و تقابلات تجعل حقيقة الشخصية يتجاذبها ما هو فطـري طبيعـي و ما هو ثقافي مكتسب، و ما هو ذاتي فردي مع ما هو اجتماعي موضوعي، ما هو ثابت بنيوي و ما هو متغير تاريخي، ما هو ظاهر و ما هو باطن خفي إضافة إلى قدرتها على الفعـل بـدل الانفعـال و تطلعها إلى تحقيق حريتها و استقلالها بدل خضوعها و امتثالها.
من خلال هذه التقابلات التي يتضمنها مفهوم الشخصية يمكن طرح التساؤلات التالية: هل تتحدد الشخصية انطلاقا من المظاهر الخارجية أم من خلال الواقع الباطني المستتر خلف القناع، هل يمكن تفسير و فهم الشخصية بالاعتماد على نظام الشخص أم على مقومات النظام النفسي أم انطلاقا من مقومات النظام الاجتماعي ؟
أم أن هذا الفهم و التفسير لا يستطيعان استيعاب المحددات الأساسية للشخصية إلا إذا تم الأخذ بعين الاعتبار ترابط و تكامل مجموع الأنظمة التي تتفاعل في تكوينها ؟
هل يملك الإنسان من الحرية ما يجعله قادرا على اختيار شخصيته وفق النموذج الذي يتلاءم مع تطلعاته و هل يستطيع تغييرها وفق ما يريده أم أنه محكوم (بحيثيات) بحتميات محددة تشرط وجوده و تحدد بالتالي شخصيته.
الشخصيـة و أنظمـة بنـائها :
يمكن النظر إلى الشخصية من زاويتين؛ فإما أن ينظر إليها من زاوية الفلسفة أو زاوية العلوم الإنسانية، فالأولى تحصرها في ماهية الشخص و كيفية عمله كنظام أما الثانية فتعتبرها نموذجا نظريا ينشأه العالم من أجل فهم و تفسير سيرة الشخص و سلوكه من خلال أنظمة نفسية.
إن الفلسفة تطرح سؤالا أساسيا و جوهريا ألا و هو ما الذي يجعل الشخص متميزا عن غيره من أنواع الموجودات الأخرى ؟ إن هذا يدفعنا إلى البحث عن ما يحدد الشخصية كما تبلورت عبر سيرورة الخطاب الفلسفي الديكارتي و التصور الكانطي و التصور الوجودي من خلال وجهة نظر سارتر.
فما الذي يحدد الشخصية في نظر ديكارت ؟ و ما الذي يجعل من الإنسان جوهرا متميزا عن باقي الموجودات ؟
ينطلق ديكارت من التساؤل عن ذاته و بذلك يبقى وفيا لمنهج الشك الذي اعتمده كطريق لإنتاج الحقيقة و المعرفة، و يطرح السؤال من أكون أنا ؟ و يحاول الإجابة عن هذا التساؤل انطلاقا من اعتبار الإنسان ذاتا تتكون من جسد و روح و بعد ذلك يبحث في طبيعة كل منهما، فينتهي إلى أن الجسد من طبيعة مادية و يشترك مع بقية الأجسام الأخرى في نفس الصفات، فهو يحتل حيزا معينا في المكان و له أبعاد ثلاثة و لهذا لا يمكن الاعتماد عليه لتحديد الشخصية أو الشخص، أما الروح فيعتبرها ديكارت فهي تتميز بخاصية أساسية ألا و هي الفكر، و على هذا الأساس يكون الإنسان أولا و قبل كل شيء ذاتا مفكرة أو جوهرا مفكرا يعي وجوده بما يجعله متميزا و مختلفا عن سائر الموجودات.
إذا كان الإنسان يتحدد كجوهر مفكر يعي ما هو ثابت في وجوده و ما هو متغير و متحول، فشخصيته ستعكس هذا الجوهر المفكر العاقل من خلال ممارسته لمجموعة من العمليات الذهنية من شك و نقد و تحليل و تركيب و برهنة و استنتاج كل ذلك يمكن الذات من إنتاج خطاب حول ذاتها له دلالة و معنى.
من هنا تتجلى أهمية إدراك الذات في الشخصية الإنسانية خصوصا المستوى الواعي فيها، لكن إذا كان ديكارت قد حدد قيمة الشخصية بمدى قدرة الإنسان على التفكير و غدراك ذاته بما هي متميزة و مختلفة عن أشياء العالم الخارجي فما الذي يحدد قيمة الشخصية في نظر كانط ؟
ينطلق كانط من أن هناك اختلافا في تحديد طبيعة العقل، فالعقل النظري كما حدده ديكارت لا يعطي للإنسان أية قيمة فهو يشكل سيئا كمجموع أشياء العالم الخارجي بل إذا نظرنا إلى الإنسان من زاوية العقل النظري فإن ذلك سيؤدي إلى المفاضلة بين الناس كما لو كنا أمام تجارة البشر، و لكن بمجرد أن ننظر إليه على أنه يتوفر على عقل أخلاقي عملي يصبح الشخص قيمة في حد ذاته و يسمو على جميع الموجودات. فهو بالإضافة إلى كونه ذاتا مفكرة يتوفر على إرادة حرة و يكون مسؤولا أخلاقيا و قانونيا على جميع (أخلاقه) أفعاله، و ذلك ما يسمح له بأن يكون غاية و قيمة في ذاتها و هذا ما يشكل كرامته، تعبر عن إنسانيته و تستوجب احترامها.
فإذا كان الحيوان يخضع فقط لضرورات النظام البيولوجي، و يعيش مندمجا في المحيط الطبيعي فإن هذه المقومات [ التفكير – الإرادة الحرة – المسؤولية ] هي ما يجعل الإنسان متميزا عن الحيوان، و هي أساس كرامته، و تشكل في نفس الوقت قاسما مشتركا مع بقية أفراد جنسه لكنها في نفس الوقت تفرض عليه واجبا أخلاقيا ألا و هو التعامل مع جميع الناس على أساس الاحترام المتبادل للكرامة الإنسانية.
غير أن هذا الوعي بهذه المقومات يتم بكيفية تدريجية و تـراكمية يتفـاعل فيهـا نمو الفـرد و مكتسباته مع فعل التنشئة الاجتماعية و خلال هذا التفاعل يقوم الاخر بدور أساسي في الكشف عن خبايا الأنا. إن هذا الآخر في صقل وعي الإنسان بذاته، فيساهم هذا الآخر و يكشف حقيقتها خلف ما تتمظهر بنفسها و ما تتوهمه كواقع لها. إن سارتر يجعل من الآخر شرطا أساسيا و ضروريا لإدراك حقيقة الذات بل و شرطا لابد منه لوجودها، غير أن هذا الآخر قد يكون عرقلة أمام تحررها و تحقيق جوهرها الذي هو الحرية.
تتحدد الشخصية من وجهة نظر الخطاب الفلسفي باعتبارها مظهرا خارجيا يعكس حقيقة الشخص و جوهره، إنها نسق أو نظام من العلاقات الدينامية التي تتفاعل فيما بينها، و بالأخص كيفية وعيها من قبل الإنسان في علاقة مع الذات المفكرة أو الذات الأخلاقية أو في علاقتها مع الغير إذا كانت الفلسفة تنطلق من التساؤل عن جوهر الشخص لتحدد طبيعة الشخصية فإن العلوم الإنسانية تنطلق من الشخصية [ النموذج النظري الذي ينشأه العالم ] لتحدد سيرة الشخص و سلوكه، إن الاتجاه السلوكي في علم النفس يعتبر أن سلوكات الإنسان و تصرفاته إنما هي ناتجة عن تلك العلاقة بين المثيرات الخارجية و الاستجابات الداخلية و هكذا إذا استطعنا أن نتتبع سلوك شخص معين خلال مرحلة معينة من حياته فإننا نستطيع الكشف عن قدراته و مقوماته و سلوكاته الحقيقية و ما يمكن أن يؤديه من وظائف لأن هذه السلوكات ما هي في آخر المطاف و حسب تعبير "واطسن" إلا استجابات لمثيرات خارجية الشيء الذي يسمح لنا في آخر المطاف بالتنبؤ بما يمكن أن يطرأ على الشخصية من تغيرات كما يمكن توجيهها و التحكم فيها.
إن المدرسة السلوكية و الاتجاه السلوكي اعتبرت الإنسان مجرد نظام طبيعي محكوم بالقوانين الطبيعية المشتركة بين كل الظواهر، فالمدرسة السلوكية إذن لا تعطي أية أهمية للشعور و اللاشعمر في تحديد الشخصية بينما ستحاول مدرسة التحليل النفسي إعادة النظر في مختلف التصورات التي كانت سائدة حول الشخصية و ستعمل على تأسيس تصور جديد لها، إنها ستنظر إليها كبنية دينامية معقدة يتعين النظر إليها في كليتها و تفاعلها، فما هي الأسس التي يقوم عليها تصور مدرسة التحليل النفسي ؟
إن الشخصية في نظر فرويد تتكون من ثلاث مقومات أساسية تتفاعل فيما بينها لتعطي لها طابعا خاصا فما هي هذه المقومات ؟ هناك الهو [ لقد أعادت مدرسة التحليل النفسي للجسم الذي لم يعره ديكارت أي اهتمام في تحديد الشخصية، كما سيعيد الاعتبار كذلك للأحلام و الحالات اللاشعورية التي استبعدتها المدرسة الشعوري، إن أول المقومات التي تتكون منها شخصيتنا هو [ الهو ] الذي يتضمن كل الميول و الغرائز الفطرية و الموروثة و هو لا يخضع إلا لمبدأ واحد؛ الحصول على اللذة و تجنب الألم، يعتبر فرويد أن هذه الميول و الرغبات و الغرائز تتمحور كلها حول النوعة الجنسية أو ما يسمى بالطاقة "الليبدية" التي تعبر عن نفسها بطرق لا واعية خلال معظم مراحل النمو الجنسي يمر بها المولود، و هذه المرحلة هي المرحلة الفمية ذلك الفم يشكل وسيلة الاتصال الأساسية مع العالم الخارجي خلال المراحل الأولى من حياة [ الهو ]المولود، لهذا يعتبر فرويد أنه في الوقت الذي يشبع فيه حاجته إلى الطعام فهو في نفس الوقت طريقة لا واعية تليها بعد الفطام المرحلة الشرجية تليها المرحلة القضيبية، و بعد ذلك يدخل مرحلة الكمون التي يختفي فيها الإشباع اللاواعي ليحل محله الفضول المعرفي ذلك أن عالم المولود يتسع الكن في هذه المرحلة 5 أو 6 سنوات يتعرض جنسه غما لعقدة أوديب أو عقدة إلكترا، فالطفل يرى في أبيه منافسا له في أمه و البنت منافسة لهـا فـي أبيهـا، و غالبا ما يتم الخروج من هذه المرحلة بسلام نظرا لطقوس التحريم في كل المجتمعات.
إلا أن الكثير من الميول و الرغبات و الغرائز لا تجد طريقها إلى الإشباع و التحقق ذلك أنها تتكسر على صخرة الواقع، فيبدأ في التشكل نوع من الوعي بأن هناك ما يمكن إشباعه و ما لا يمكن إشباعه، فيبدأ في التشكل ما يعرف بالأنا الذي هو جزء من الهو انفصل عنه تحت تأثير الواقع، إن الأنا يمثل ذلك الجانب من شخصيتنا الذي نحيى به مع الآخرين و يتكون من أفعال و سلوكات إرداية واعية و اخرى لا شعورية استطاعت أن تتكيف مع الواقع و تتلاءم معه بكيفيـة مقبـولة اجتمـاعية، و تحت تأثير عملية التنشئة الاجتماعية و ما يكتسبه البعض خلال عملية التربية و التلقين و التعلم يتشبع الأنا بالقيم الأخلاقية و الدينية فينفصل جزء من الأنا ليشكل ما يسميه فرويد بالأنا الأعلى، إن الأنا الأعلى يشكل مجموع القيم و العادات و التقاليد التي اكتسبها الفرد فأصبحت جزءا من كيانه الداخلي و تمثل مرجعا لم يمكن الإقدام عليه أو الإحجام عنه إلا أن فرويد يعتبر أن الشخصية الإنسانية تتحدد من خلال العلاقة بين هذه المكونات الثلاث، فما طبيعة العلاقة بين هذه المكونات ؟
يعتبر فرويد أن العلاقة بينها هي التي تحدد طبيعة الشخصية و هل هي شخصية سوية أم شخصية مرضية. إن الأنا يتعرض لضغط قوتين جبارتين فمن جهة هناك محتويات اللاشعور التي تطمح إلى الإشباع و التحقق و من جهى أخرى هناك متطلبات الأنا الأعلى، على الأنا أن يقوم بدور الرقيب أو الحارس اليقظ الذي عليه ألا يسمح بالتحقق إلا لما هو مقبـول اجتمـاعيا أمـا الـرغبات و الميول و الغرائز التي تتنافى مع قيم مجتمع فعليه أن يلقيخا في الأسر لكنها تتحين كل فرصة لكي تعبر عن نفسها بشكل سافر و جلي، و أفضل مناسبة لذلك هي عندما تتراخى سلطة الرقابة خلال النوم و كذلك في حالات فلتات اللسان أو زلات القلم.
كلما كان الأعلى قويا و استطاع أن يوازن بين كل من اللاشعور و الأنا الأعلى شكل ذلك شخصية سوية، و كلما طغى أحدهما على الأنا أنتج ذلك شخصية مرضية.
إذا كانت السيكولوجيا قد ركزت على النظام النفسي بتحديد الشخصية، فإن الخطاب السوسيولوجي قد ركزت على النظام اجتماعي لتؤسس تصورها للشخصية على اعتبار أنها بناء نظري يقوم على محددات اجتماعية و سلطة المؤسسات، ذلك أننا نجد اهتماما كبيرا بالمصادر الاجتماعية للشخصية كالتأكيد على الدور الاجتماعية مع الاهتمام القليل بالظروف البيولوجية الفطرية التي أكدها فرويد.
إن التصور الاجتماعي للشخصية ينطلق من التفاعلات بين الناس و آثار هذه التفاعلات على نمو الشخص، إن العلاقات بين الأفراد تحدد الأدوار المنظمة للثقافة ذلك أن المؤسسات الاجتماعية تصف كيف يجب أن يسلك الشخص و كيف ينظر إلى ذاته و إلى علاقته بالآخرين و ذلك بهدف دمجه في حياة المجتمع و نضاله حتى يحافظ على الأخير و على توازنه و استمراره، إن الإنسان كائن اجتماعي بالضرورة و هكذا فكل مجتمع يطبع سلوكات أفراده و مواقفهم و عاداتهم و طرق تفكيرهم بطابعه الخص و ذلك بواسطة التربية و التنشئة الاجتماعية، فهذه الأخيرة تكسب الأفراد نماذج من القيم و التصورات و الاستجابات تساير متطلبات الحضارة التي ينتمي إليها كل فرد و هكذا يستوعب الشخص عناصر الثقافة الاجتماعية لتصبح جزءا من محددات شخصيته كما تحقق تكيفه مع محيطه الاجتماعي و تحدد انتماءه إليه بتوفير شروط تكيفه البيولوجي و النفسي و الذهني.
إن الشخصية لها تاريخها الخاص لأنها تعيش، تنمو و تتطور في ظروف تـاريخية ملمـوسة و محددة، و انطلاقا من ذلك يمكن التساؤل عما إذا كان كل مجتمع يمارس تأثيره على الأفراد بنفس الكيفية و الفعالية بحيث يشكل كل ذلك شخصية نمطية، أم أن نتائج فعل المجتمع تنتهي إلى أنماط سلوكية مختلفة ؟
إن المجتمع لا يتحدد فقط بمجموع الأفراد المنتسبين إليه بل يتحدد من خلال شبكة العلاقات التي يقيمها هؤلاء الأفراد فيما بينهم و ما يشتركون فيه من نمط عيش يعبر عن ثقـافة ذلك المجتمـع و التي تخضع لسيرورة مرتفعة بتطور شروطه المادية، و هكذا يمكن القول إن كل مجتمع يتضمن حسب تصور "رالف لينتون" على الأقل شخصيتين؛ إحداهما أساسية و الأخرى وظيفية:
فالشخصية الأساسية مجردة و تتمثل في كل ما هو عام و مشترك بين أفراد المجتمع كأنماط السلوك و طرق الاستجابة و كذلك القيم المشتركة، إن هذه الشخصية الأساسية هي التي تمكن من التمييز بين مجتمع و آخر.
أما الشخصية الوظيفية فترتبط بالوضع و الدور، إنها شخصية مادية محسوسة ذات طابع متعدد، فالحياة الاجتماعية يمكن تشبيهها بخشبة المسرح تتناوب عليها الفرق المسرحية لكن كل فرد يقوم بدوره لكن هذا الدور قابل للتغير.
إن الشخصية الوظيفية ترتبط بدرجة تقدم المجتمع و بتقسيم العمل داخل كل مجتمع و مهمتها الأساسية السهر على حسن سير الحياة الاجتماعية بشكل يسمح باستيعاب مختلف الوظائف و الأدوار التي يقوم بها الأفراد في الحياة الاجتماعية، إن علاقة شخصية الفرد بالمجتمع ترتبط بنوع المجتمع الذي يحيا ضمن أفراده و هكذا تختلف هذه العلاقة باختلاف نوع المجتمع، فإذا كانت شخصية الفرد تذوب لصالح الجماعة في المجتمعات المسماة مغلقة كالعشيرة أو القبيلة.
أما في المجتمعات المتقدمة و المسماة منفتحة فتظهر النزعة الفردية الشيء الذي يؤهل الفرد للشعور بالعزلة و الانطواء و يؤدي في آخر المطاف إلى ظهور سلوكات مضطربة أو منحرفة و هذا يطرح على العلوم الإنسانية أعباء جديدة من أجل دراسة تلك الظواهر و توجيهها و التحكم فيها.
رجوع
III. الشخص و دوره في بناء الشخصية:
إن الانتقال من الاهتمام بالإنسان كذات في الفلسفة إلى الاهتمام به كموضوع مع العلوم الإنسانية واكب تطور الثورة الصناعية في المجتمعات الغربية، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو هل تتطابق النماذج التي وضعتها العلوم الإنسانية مع حقيقة الشخصية في مختلف أبعادها، أم أنها مجرد نماذج نظرية لا تعكس حقيقة الذات و ما تملكه من وعي و قدرة على التحرر و تجاوز مختلف الشروط التي تحيا ضمنها و ما هي مخلفات تلك النظرة العلمية على فلسفة الإنسان ؟
لقد تبين لنا أن علوم الإنسان تؤكد على أن هذا الأخير محكوم بمجموعة من من الحتميات هي التي تشرط وجوده و توجهها عبر قنوات لتصاغ بكيفية لا شعورية و عن طريق إكراهات المؤسسات الاجتماعية، فمعظم العلوم الإنسانية تؤكد أن الإنسان لا يعدو كونه مفعولا به و نتاجا لتفـاعل بنيـات و قواعد مؤسسية مختلفة تمارس عليه فعلها و إكراهاتها.
إن الإنسان لم يختر والديه و لا المجتمع الذي يعيش فيه و لا اللغة التي يتكلمها، كما أنه يدخل خلال عملية مستقلة عن إرادته، فمدرسة التحليل النفسي تؤكد أن الشخصية محكومة بحتميات لاشعورية هي التي تحدد في آخر المطاف الطابع المميز للشخصيات، و في نفس الوقت تؤكد الدراسات السوسيولوجية و الأنتروبولوجية على أن المجتمع يمارس تأثيره على الأفراد و يحدد أدوارهم و وظائفهم، و هكذا تبدو الشخصية من منظور العلوم الإنسانية عبارة عن نماذج نمطية جاهزة يتأطر ضمنها الأفراد بشكل موضوعي و مستقل عن إرادتهم، الشيء الذي سيدفع البعض إلى اعتبار كل النزعات العلمية التي تتبنى هذه الأطروحات بأنها ضد إنسانية و أنها حولت الإنسان إلـى شـيء و نزعت عنه كل خصوصيات الذات المتمثلة في الإرادة و الوعي و الحرية و التلقائية و بذلك تكون قد قتلت الإنسان.
إن قتل الإنسان هنا يتخذ معنى خاصا جدا، فهو من جهة إلغاء لذاتيته و لكل ما هو خاص فيه، و من جهة أخرى تحويله إلى موضوع يتم تناوله من زاوية معينة و اعتبار الجزء محددا للكل.
الشــــغـــــــل
• الشغل والحياة
• نظريات حول الشغل
• تقسيم العمل
• قيمة العمل
الشغل والحياة
يبدو على نحو مؤكد أن الناس اشتغلوا على الدوام , وأن كل إنسان خلال حياته , قد أنجز بشكل أو بآخر مجموعة من الأعمال فحتى الحياة الترفة تتطلب على نحو ما بذل مجهود متواصل أو عمل متواصل . بداية إلى كل ولادة يصاحبها نوع من الآلام , وبذلك يكون العمل مرفوقا بالألم . إن هذا اللفظ مشتق من اللاتينية تريباليوم الذي يدل على آلة التعذيب " تري" " ثلاثة" و" باليوم" " الأوتاد" ولهذا فإن دلالات العمل العميقة لازالت تحل في طياتها هذه الأبعاد المخيفة ولهذا فإن الخطاب السياسي الرسمي حول " العمل" يكون دائما موضوع احتفالية تمجيدية كما لو أن الأمر يتعلق بإسدال ستار من النسيان حول الدلالة المرتبطة " بالتعب" و" العمل الشاق لكن الأمر في الفلسفة يتعلق بمقاربة خاصة للشغل منذ آدم سميت وكذا علماء الاقتصاد في القرن 18 . ذلك أنه إذا كان لابد من الخضوع للضرورة المتمثلة في " ممارسة التعب " فعلى العكس من ذلك فإنه بهذا المعنى هناك قلة من الناس الذين يمارسون بالفعل " الشغل" بهذا المعنى إذا كان الأمر يتعلق بنوع من العلاقة بين الانسان والطبيعة حيث يكون هذا الانسان وسيطا موجها , وضابطا ( ماركس, الرأس مال .( (ص 5.) III
وعلى هذا النحو لا يعتبر الشغل مجرد قيمة بل مصدرا لجميع القيم بمعنى مصدرا لجميع الثروات الاقتصادية إنه الأداة التي من خلالها يتجاوز الانسان محيطه الطبيعي ويتحرر من الشعبة للطبيعة . وفي هذا الصراع فإن العامل بالمعنى الدقيق للكلمة هو الذي يحمل الصدارة لانه هو الذي يحتفظ على العلاقة المباشرة بالوقائع المادية . وهو الذي يدرك معنى " أن يكسب قوته بعرق جبينه" لأن العمل يرتبط بمعنى الخطيئة الأصلية في جميع الديانات السماوية للبشرية التي عليها أن تعتمد على مجهوداتها الخاصة وعلى كدها قبل أن تطلب المساعدة الإلهية " ساعدني فليساعدك من في السماء" . ولكن العمل بلغة هيجل هو عبارة عن " صلة للعقل" بواسطتها يتموضوع الانسان بشكل يسمح له بأن يقتصد ويحافظ على قواه الخاصة , بحيث يوظف هذه القوى ليمكنها من أن تستخدم بعضها البعض كقوى أولية طبيعية ويكون العمل مجرد واسطة إن فعالية العامل ليست مباشرة ولكنها مجرد وسيلة تتجسد في الآلة او الأداة .
ولهذا فإن فرانكلين , وبرودون وماركس وكذلك برجسون يعرفون الانسان كل على حدة بأنه " حيوان صانع للأدوات" إلا أن الآلة لا تحمل غايتها في ذاتها , ومن جهة أخرى فإن منتوج أي عمل إنساني ( منزلا كان أو باخرة ,آلة أو أرضا مزروعة ) يلزم عنه بالضرورة القيام بأعمال أخرى ( الصيانة – التعهد والاصلاح) إن الشغل نفسه ضد مضيعة الوقت , وكل نتيجة للعمل هي مناسبة للقيام بالعمل من جديد . ولهذا فغن تحرر الانسان تجاه الطبيعة يبقى دائما وبالضرورة عملا شاقا ومضنيا .
نظريات حول الشغل
لقد كانت اليونان القديمة تنظر الى الشغل باعتباره فاعلية مهنية , رغم ضرورته, إن احتقار العمل باعتباره يستعبد الفكر ليهتم بالمادة ( أفلاطون) هذه النظرة هي في الواقع سببا ونتيجة في نفس الوقت لمؤسسة العبودية . وبما أن" النزف لا يمكن أن ينسج من تلقاء ذاته " فإن الآلات الحية ( الأدوات ) من أجل أن توفر الحياة الراقية للعقول المتأملة , والتي وظيفتها إنتاج الفكر النظري ( أرسطو)
وفي تقاليد الزبور, فإن الضرورة التي يقتضيها الشغل ناتجة عن الخطيئة الأصلية . ولهذا فإن الشغللا يعتبر فاعلية مهنية من الآن فصاعدا , ولكنه عبارة عن كفارة وامكانية للتوبة فالانسان ككائن مذنب عليه أن يشتغل حتى يثبث لربه ( الله) أنه خاضع لمشيئته وأنه محب له .
البروتستانية هي التي اعتبرت الشغل الى فعالية شاقة وعقيدة دينية في نفس الوقت وبذلك يكون الشغل عبارة عن ديانة تطهيرية .
إلا أن الكلفيشية القدرية ( الناس إما مدانون أو مختارون ) خلفت نوعا من القلق فاعتبر ماركس أن هذا الاسقاط الديني لا معنى له ذلك أنه في عالم التجارة , فإن النجاح أو الفشل لا يتوقف على إرادة الانسان بل أنه محكوم بظروف خارجة عن إرادته ولا تتوقف على نشاطه الخاص وبهذا كان ينظر الى النجاح المهني راجع الى لعناية الالهية وأن من حالفه ذلك فهو الأخيار . إن التطهيريين كانوا يحتقرون الراحة والمتعة , ومن تم فإنه ينبغي العمل لا من أجل التدبير والبذح بل من أجل التوفير وإعادة استثمار ماتم ادخاره في مشاريع جديدة .
هذه العقيدة البروتستانية شجعت بذلك فكرة التراكم الرأسمالي بهدف الاستثمار .
إن التقارب التاريخي بين العقيدة البروتستانية والرأسمالية قد وضحها بشكل كاف ماكس فيبر , وفي ما بعد , وبعد أن ترسخت الرأسمالية فإنها طلقت البروتستانية .
الاشتراكية حافظت من البروتستانية فكرة أن الشغل غاية في ذاته , لكن ماركس يرفض المضمون الديني لهذه الفكرة : فعلى الأرض وليس في السماء يجب تقرير مصير الانسان , ولكنه لا يمكن أن يتقرر إلا من خلال الشغل فبعيدا عن ان يكون هذا الاخير محطا من قيمة الانسان , فغنه هو الذي يحقق للانسان كرامته وقوته وأخيرا يمنح لوجوده معنى بل يحقق هذا الوجود .
فالشغل يخلق الانسان ذاته , لكن شريطة أن يكون بالفعل أداة للتحرر , وليس وسيلة للاستعباد ولهذا على كل إنسان أن يشتغل كما يجب القضاء على تقسيم المجتمع الى طبقتين ( البرجوازية والبروليتاريا) بمعنى آخر يجب القضاء على استغلال الذي يشتغلون من قبل الذين لا يشتغلون .
تقسيم العمل
إن الحدث الانساني الاساسي هو توزيع الأنشطة والمهام بين الأفراد داخل نفس المجتمع : إنه تقسيم العمل بالنسبة لعدد كبير من المفكرين ( أفلاطون – سبينوزا – كانط- دور كاريم) فان تقسيم العمل يعتبر مؤشرا موضوعيا على درجة تقدم وتحضر المجتمعات .
من الناحية الاجتماعية فإن العمل يقسم تبعا للجنس أو للطبقات ( الهند) أو تبعا لموازين القوى ( أسرى الحرب ) أما وظيفيا فهو مقسم تبعا للمهن وفي مجال الصناعة فإن كل منهما تتفرع شعبا مختلفا ( مثلا في مجال المعمار : البناءون , الحدادون , والكهربائيون ...) أما من الناحية التقنية ينقسم الى مجموعة من الحركات البسيطة , الجزئية والمتماثلة ( ا