أولا: يطلق الإحكام بمعنى الإتقان، فإحكام الكلام إتقانه ووضوح معناه، فيتميز به الصدق من الكذب في الأخبار، والرشد من الغي في الأوامر، والقرآن كله محكم بهذا المعنى، واضح لا التباس فيه على أحد، قال الله -تعالى-: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ، وقال -سبحانه-: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ .
ثانيًا: التشابه في الكلام، يطلق على تماثله وتناسبه، بمعنى أنه يصدق بعضه بعضًا في أوامره، فلا يأمر بشيء في موضع، وينهى عنه في موضع آخر، ويصدق بعضه بعضًا في أخباره، فإذا أخبر بثبوت شيء في موضع، لم يخبر بنفيه في موضع آخر، والقرآن كله متشابه بهذا المعنى، فلا تناقض فيه ولا اضطراب، قال الله -تعالى-: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا وقال -تعالى-: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ . التشابه بهذا المعنى، لا ينافي الإحكام بالمعنى العام، بل يصدق كل منهما الآخر، ولا يتناقضان.
ثالثًا: التشابه بالمعنى الخاص، هو مشابهة الشيء غيره من وجه ومخالفته له من وجه، وفي القرآن آيات متشابهات -بهذا المعنى- تحتمل فى دلالتها على ما يوافق الآيات المحكمة، وتحتمل الدلالة على ما يخالفها، فيلتبس المقصود منها على كثير من الناس.
ومن رد المتشابهات بهذا المعنى الخاص إلى الآيات المحكمات الواضحات بنفسها، تبين له المقصود من المتشابهات، وتعين له وجه الصواب.
ومن وقف من العلماء عند الآيات المتشابهات، ولم يرجع بها إلى المحكمات الواضحات، ارتكس في الباطل، وضل عن سواء السبيل، كالنصارى في احتجاجهم على أن عيسى ابن الله.
يقول الله -تعالى- فيه: إنه كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه، وتركهم الرجوع إلى قوله -تعالى- في عيسى -عليه السلام- : إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ ، وقوله -سبحانه-: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ . .
وقد دل على هذا النوع من التشابه الخاص والإحكام الخاص، وبين اختلاف الناس في موقفهم منه قولُه -تعالى-: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ .
وبهذا يعلم أن القرآن تبيان لكل شيء، وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين، ويتبين التوفيق بين النصوص، وأن الراسخين في العلم هم الذين يتبعون الحق، فيرجعون بالمتشابه من الآيات إلى الآيات المحكمات تحكيمًا لها، فيزول الالتباس فيما تشابه من الآيات بالمعنى الخاص، ويتعين المقصود منها.
بخلاف من في قلوبهم شك وزيغ، فهم الذين يركبون رؤوسهم، ويتبعون أهواءهم، فيقصدون إلى المتشابه من النصوص، دون رجوع به إلى المحكم ابتغاء الفتنة، ورغبة في التلبيس على الناس وإضلالهم عن سواء السبيل.
أما الفرق بين تأويل القرآن وتفسيره، فتأويله قد يراد به تفسيره بكلام يشرحه، ويوضح المقصود منه، ولو برده إلى المحكم منه، وعلى هذا يصح الوقف على كلمة ( الْعِلْمِ ) في قوله -تعالى-: ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) . فإن الراسخين في العلم يعلمون معنى المتشابه من آيات القرآن، والمقصود منها برده إلى المحكم من الآيات، ويفسرونها ويبينون معناها، فتكون الواو في قوله -تعالى-: ( وَالرَّاسِخُونَ ) عاطفة على لفظ الجلالة.
وقد يراد بتأويل القرآن حقيقته ومآله والواقع، الذي يؤول إليه الكلام، كما في قوله -تعالى-: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ .
وكما ذكر الله- تعالى- في قصة يوسف - لما سجد له أبواه وأخوته - عن يوسف -عليه السلام- أنه قال: يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ وقال عين ما وجد في الخارج تأويل رؤياه ومآلها وحقيقتها التي وقعت.
ومن ذلك كيفيات الصفات، التي أثبتها الله -تعالى- لنفسه كالاستواء في قوله -تعالى-: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ، كمجيئه يوم القيامة والملائكة صفًا صفًا، قال الله تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا .
فكل من معنى الاستواء والمجيء معلوم للراسخين في العلم، أما كيفية ذلك، فلا يعلمها إلا الله وحده.
وعلى هذا يكون الوقف على لفظ الجلالة في قوله -سبحانه-: ( وما يعلم تأويله إلا الله ) وكل من القولين في الوقف صحيح؛ لأن كل منهما مبني على اعتبار معنى في بيان التأويل صحيح.
ومما يمثل به للتأويل بمعنى بيان المآل والحقيقة، ما ثبت عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا، وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن ، تعني قوله: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا . فالتأويل فى كلامها بمعنى المآل، والحقيقة التي آل إليها الكلام.
وقد يراد بتأويل القرآن ونحوه من النصوص الشرعية، صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به، وهذا اصطلاح كثير ممن تكلم في الفقه وأصوله، وهو الذي عناه أكثر من تكلم من المتأخرين في تأويل نصوص الصفات، وقد نقد شيخ الإسلام ابن تيمية ذلك في آخر القاعدة الخامسة من كتاب "التدمرية" ، فليرجع إليه من أراد التوسع في الموضوع. .