لحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّد المرسلين وإمام المتَّقين، وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الغُرِّ الميامين. تتميز النفسُ البشريَّة بتفرُّدها بمزايا حباها الله -تعالى- بها من حيث فضَّلها على سائر الخَلْق، ووضَعَ لها ميزانًا دقيقًا؛ لكيلا تجنح وتبعدَ عن الطريق؛ فوضع لها ميزانًا قويمًا يقوِّمها ويهديها الصراط المستقيم.
فالغوص في أعماق النفس البشريَّة واستخراج مكنونها وخباياها وإبداعها من الأمور الضروريَّة لإحداث التمايز بين النوع البشري، وارتقائه للمكانة التي تؤهِّله للاستخلاف في الأرض، ولَمَّا كان قُرْآننا الكريم وسُنَّة نبيِّنا -صلى الله عليه وسلم- زاخِرَيْنِ بالكنوز التي تساعد على ارتقاء النفس، وتفرُّدها كنفس مسلمة لها تميُّزها وكينونتها التي فضَّلها الله بعِلْمه وحِلْمه.
لنذهب إلى رحلة بسيطة تحاكي كينونة النفس البشريَّة، وربطها في كتاب الرحمن وسُنَّة العَدْنان؛ لنستخرج الآلاء والدُّرر، ونشارك في إثراء المقالات النفسيَّة وربطها في أساسها ومنبعها، وبناءً عليه نضع الآليَّات النفسيَّة بميزان قرآني ونصٍّ حديثي؛ ليستوي الأصلُ ويكتمل الفصل.
فصول في تفرُّد القرآن في الاهتمام والاعتناء، وتقديم علاجٍ للنفس الإنسانيَّة، ونضعها على نقاط:
1- قوة الصلة بالله.
2- الثبات والتوازن الانفعالي.
3- الصبر عند الشدائد.
4- المرونة في مواجهة الواقع.
5- التفاؤل وعدم اليأْس.
6- توافُق المسلم مع نفسه.
7- توافق المسلم مع الآخرين.
لنفصِّل ونشرح كلَّ نقطةٍ على حِدة:
أولاً: قوة الصلة بالله:
وهي أمر أساس في بِناء المسلم في المراحل الأوْلَى من عُمْره؛ حتى تكون حياته خالية من القَلَق والاضطرابات النفسيَّة، وتتم تقوية الصلة بالله بتنفيذ ما جاء في وصيَّة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عباس –رضي الله عنهما-: ((يا غلام، إني أعلمك كلمات؛ احفظِ الله يحفظك، احْفظِ الله تجده تجاهك، إذا سألتَ فاسألِ الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله، واعْلمْ أنَّ الأمة لو اجتمعتْ على أنْ ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أنْ يضروك بشيءٍ لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعت الأقلام وجفَّت الصُّحف))؛ رواه الترمذي، وقال: "حديث حَسن صحيح"، وفي رواية غير الترمذي زيادة: ((احفظِ الله تجده أمامك، تعرَّف إلى الله في الرخاء يَعْرفك في الشدة، واعْلمْ أنَّ ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكنْ ليخطئكَ، واعْلمْ أنَّ النَّصرَ مع الصبر، وأنَّ الفرجَ مع الكَرْب، وأنَّ مع العُسْرِ يسرًا)).
ثانيًا: الثبات والتوازن الانفعالي:
الإيمان بالله يشيع في القلب الطمأنينة والثبات والاتزان، ويَقِي المسلم من عوامل القلق والخوف والاضطراب؛ قال -تعالى-: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) [إبراهيم: 27]، (فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة: 38]، (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ) [الفتح: 4].
ثالثًا: الصبر عند الشدائد:
يربِّي الإسلام في المؤمن روح الصبر عند البلاء، عندما يتذكَّر قولَه -تعالى-: (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة: 177]، وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((عجبًا لأمر المؤمن؛ إن أمره كلَّه خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سرَّاء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاء صبرَ، فكان خيرًا له)).
رابعًا: المرونة في مواجهة الواقع:
وهي من أهم ما يحصِّن الإنسان من القلق أو الاضطراب حين يتدبر قوله -تعالى-: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة: 216].
خامسًا: التفاؤل وعدم اليأس:
فالمؤمن متفائل دائمًا، لا يتطرَّق اليأس إلى نفسه؛ فقد قال -تعالى-: (وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف: 87].
ويطمْئِنُ الله المؤمنين بأنه دائمًا معهم إذا سألوه، فإنه قريبٌ منهم ويجيبهم إذا دعوه؛ (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة: 186]. وهذه قمة الأمن النفسي للإنسان.
سادسًا: توافق المسلم مع نفسه:
حيث انفرد الإسلام بأن جَعَلَ سنَّ التكليف هي سنَّ البلوغ للمسلم، وهذه السنُّ تأتي في الغالب مُبكِّرة عن سنِّ الرشد الاجتماعي الذي تقرِّره النُّظم الوضعيَّة، وبذلك يبدأ المسلم حياته العمليَّة، وهو يحمل رصيدًا مناسبًا من الأُسس النفسيَّة السليمة التي تمكِّنه من التحكُّم والسيطرة على نزعاته وغرائزه، وتمنحه درجة عالية من الرضا عن نفسه؛ بفضل الإيمان والتربية الدينيَّة الصحيحة التي توقظ ضميره، وتقوِّي صِلته بالله.
سابعًا: توافق المسلم مع الآخرين:
الحياة بين المسلمين حياة تعاون على البرِّ والتقوى، والتسامح هو الطريق الذي يزيد المودة بينهم ويبعد البغضاء، وكظم الغيظ والعفو عن الناس دليل على تقوى الله، وقوة التوازن النفسي؛ (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت: 34 - 35].
أخيرًا:
لا بدَّ من الاعتناء بالنفس الإنسانيَّة من منظور شرعي قُرْآني فريد؛ حيث إن تفرُّد القرآن وميزَته عن غيره من الكتب يؤدِّي إلى رعاية النفس الإنسانيَّة؛ لتأخذ التميز والتفرُّد من أصله "القرآن" ومن ينابيعه، فتسود بسيادته؛ إذ هو سيِّد الكُتب ولا قرَآنَ بينه وبين ما هو بعدَه، وهكذا يجب أنْ يتفرَّد المسلم مثل قرآنه وشرعه