"كُنَّا علَى أُهْبَةِ الاِسْتِسْلاَمِ ولَكِنَّ نِسَاءَنَا
سَخِطْنَ مِنْ هَذِهِ التَّدَابِيرِ السِّلْمِيَّةِ
وأَقْسَمْنَ أَنْ يُقَاطِعْنَنَا لِلأَبَدِ إِنْ لَمْ نُدَافِعْ
عَنْ أَنْفسِنَا رُغْمَ كُلِّ شَيْءٍ."
زُعَمَاءُ الْقَبَائِل 1844م

يَمَّا نُوَّارَة

كَانَ الشِّتَاءُ قَارِساً جِدّاً تِلْكَ السَّنَةَ. قَطَعَتِ الأَوْحَالُ والثُّلُوجُ الدُّرُوبَ فَحُبِسَ الْعِبَادُ فِي بُيُوتِهِمْ مَعَ الْحَيَوَانَاتِ. وكَانَتِ اللَّيَالِي أَطْوَلَ بِسَبَبِ حَظْرِ التَّجَوُّلِ وأَكْثَرَ سَوَاداً. حَمْداً للهِ أَنْ كَانَ الْحَطَبُ وَفِيراً فِي الْمَوَاقِدِ.
وبِشَأْنِ الْحَطَبِ، لَمْ يَكُنْ لِيَمَّا نُوَّارَةَ شَبِيهٌ قَطُّ. لاَ أَحَدَ كَانَ يُحْسِنُ مِثْلَهَا اصْطِفاءَهُ جَافّاً، يَابِساً. لَمْ تَكُنْ حَاجَةٌ إلى إِجْهَادِ الرِّئَتَيْنِ والْحَنْجَرَةِ بِالتَّنَحْنُحِ والنَّفْخِ حَتَّى تَأْخُذَ النَّارُ بِهِ. كَانَ مُبْهِجاً أَنْ يُرَى يَحْتَرِقُ فِي أَلْسِنَةٍ نَارِيَّةِ جَمِيلَةٍ، شَّفَافَةٍ ذَاتِ رُؤُوسٍ زَرْقَاءَ. صَحِيحٌ أَنَّ يَمَّا نُوَّارَةَ، حَذَرَ مَوْسِمِ الثَّلْجِ، لَمْ تَكُنْ تَتَرَدَّدُ فِي الذَّهَابِ بَعِيداً فِي الْغَابِ. كَانَتْ تُمْضِي أَيَّاماً بِأَكْمَلِهَا نَاهِيكُمْ عَنِ كَمِّيَّةِ الْحَطَبِ الْهَائِلَةِ الَّتِي كَانَ يُمْكِنُهَا حَمْلُهَا عَلَى ظَهْرِهَا.
كَانَ مَشْهَداً عَادِيّاً فِي قَرْيَةِ "آنُو" أَنْ تُرَى يَمَّا نُوَّارَةُ"، مَوْعِدَ الأَصِيلِ، مُنْحَنِيَةً تَحْتَ حُزْمَةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ الْحَطَبِ ومُتَسَلِّقَةً بِخُطَى بَطِيئَةٍ الْعَقَبَةَ الْمُؤَدِّيَةَ إِلَى الْقَرْيَةِ. وكَانَ مَشْهَداً عَادِيّاً أَيْضاً أَنْ تُرَى وَسَطَ الْمَيْدَانِ، يُحِيطُ بِهَا جَمْعٌ مِنَ الأَطْفَالِ الصَّاخِبِينَ، يَتَدَافَعُونَهَا ويُزَاحِمُونَها، كَيْ يَحْصُلُوا عَلَى حَبَّاتِ بَلُّوطٍ أَوْ تُوتٍ أَوْ حَتَّى زُهُورِ الْخَشْخَاشِ يُفَرْقِعُونَ بَتْلاَتِهَا عَلَى قَبْضَةِ الْكَفِّ. كَانَتْ غَرِيبَةً أَيْضاً تِلْكَ الْعادَةُ فِي أَنْ تَجْلِبَ يَمَّا نُوَّارَةُ زُهُوراً. فَإِذَا كَانَ الْمَوْسِمُ الْمُنَاسِبُ، غَرِقَتْ حُزْمَتُهَا تَحْتَ أَزْرارٍ ذَهَبِيَّةٍ وبَنَفْسَجِيَّةٍ تُوَزِّعُهَا عَلَى الأَطْفَالِ. أَلأَجْلِ ذَلِكَ سُمِّيَتْ نُوَّارَةَ؟
لاَ يُهِمُّ ! إِنَّمَا كَانَتْ لِلْجَمِيعِ أُمّاً مَحْبُوبَةً ومُحْتَرَمَةً، وكَانَتْ كُلِّ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الدَّشْرَةِ بَيْتَهَا. بَلْ كَاَنَتِ الأَهَالِي تَتَخَاصَمُهَا، لاَ سِيَّمَا فِي مُنَاسَبَاتِ اللَّحْمِ حَيْثُ كَانَ لَهَا فِي كُلِّ دَارٍ سَهْمٌ وفِي أَحْيَانٍ كَثِيرَةٍ، لَهَا فَوْقَ ذَلِكَ نصِيبُ طِفْلٍ مِنَ الأَطْفَالِ.
***
كَانَتِ الْحَرْبُ مُشْتَعِلَةَ الأُوَارِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، ومَرَّةً أُخْرَى، كَانَ الْمُسْتَعْمِرُ يَتَحَدَّثُ عَنِ "الرُّبْعِ سَاعَةٍ الأَخِيرِ".
وإِذَا بِ"آنُو" مُقْتَحَمَةٌ والصُّبْحُ لَمْ يَطْلَعْ بَعْدُ. وأُوقِظَ السُّكَّانُ مِنَ النَّوْمِ فَجْأَةً ثُمَّ اقْتِيدُوا إِلَى مَيْدَانِ الْقَرْيَةِ: تَفْتِيشٌ وَاِسْتِجْوَابٌ وَضَرْبٌ وَصُرَاخٌ وشَتْم...ونُودِيَ كُلٌّ بِاسْمِهِ. يَمَّا نُوَّارَةُ وَحْدَهَا تَخَلَّفَتْ عَنِ النِّدَاءِ ولَكِنَّ الضَّابِطَ الْفِرَنْسِيَّ الَّذِي كَانَ يَقُودُ الْعَمَلِيَّةَ لَمْ يَقْلَقْ. كَانَ يَعْرِفُ الْعَجُوزَ نُوَّارَةَ لأَنَّهُ لَقِيَهَا عِدَّةَ مَرّاتٍ عَلَى الدُّرُوبِ، مُنْحَنِيَةً تَحْتَ حُزْمَةِ الْحَطَبِ الْعَظِيمَةِ. قِيلَ لَهُ إِنَّهَا وَلاَ شَكَّ فِي الْغابِ مُنْذُ الْفَجْرِ وأَنَّهَا لَنْ تَرْجِعَ قَبْلَ الْمَغْرِبِ كَعادَتِهَا.
ثُمَّ إِنَّ هَذَا كُلَّهُ لَمْ يَكُنْ مُهِمّاً بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّقِيبِ إِذْ أَشَدُّ مَا كَانَ يُهِمُّهُ هُوَ مَعْرِفَةُ إِذَا كَانَ أَحَدٌ قَدْ أَوَى أَوْ رَأَى الْمَدْعُوَّ عَلِيّاً. إِنَّهُ إِرْهَابِيٌّ خَطِيرٌ عَلَى قِصَرِهِ ونَحَافَتِهِ وابْنُ هَذِهِ الْقَرْيَةِ...ثُمَّ هَدَّدَ قائِلاً: "شُوهِدَ جِهَةَ آنُو ولاَ شَكَّ أَنَّ أَحَدَكُمْ يُخَبِّئُهُ"...
طَبْعاً، لاَ أَحَدَ فِي آنُو شَاهَدَ أَبَداً عَلِيّاً أَوْ أَوَاهُ. وكَانَ النَّقِيبُ، وهُوَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ النَّفْسِيَّةِ ويَعْرِفُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ "يَكُونَ كَالسَّمَكَةِ فِي الْمَاءِ"، كَانَ يَصْطَدِمُ بِهَذِهِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي تَجْعَلُ كَلاَمَ السُّكَّانِ مُذَبْذَباً كُلَّمَا سُئِلُوا مِثْلَ تِلْكَ الأَسْئِلَةِ. عَلِيٌّ هَذَا مَثَلاً، لاَ أَحَدَ فِي آنُو يَذْكُرُهُ. إِيْ نَعَمْ، ثَمَّةَ عَلِيَّانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ، ولَكِنَّهُمْ هَجَرُوا الدَّشْرَةَ مُنْذُ زَمَنٍ بَعِيدٍ وإِنَّ أَهْلَهُمْ سَيُسْعَدُونَ بِهِمْ غَايَةً لَوْ رَأَوْهُمْ..."قَرْيَتُنا هادِئَةٌ أَيُّهَا النَّقِيبُ. نَحْنُ نَلْتَمِسُ الْخُبْزَ فَقَطْ..." كَذَا تَكَلَّمَ الشَّيْخُ مُعَمَّرُ الَّذِي كَانَ عَرِيفاً في فَرِيقِ "الزِّوَاوَةِ". ولَكِنَّ النَّقِيبَ أَسْكَتَهُ بِعُنْفٍ وأَضَافَ أَنَّهُ صَارَ الآنَ يَعْرِفُ الْمُوسِيقَا إِيَّاهَا.
***
وأَوْشَكَ النَّهَارُ أَنْ يَنْتَهِيَ. فَسَمَحَ الضَّابِطُ لِلسُّكَّانِ أَخِيراً، وهُوَ ماَ يَزَالُ غَاضِباً، وكَمَا لَوْ كَانَ عَلَى مَضَضٍ، أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى بُيُوتِهِمْ. وَوَعَدَ أَنَّ عَيْنَهُ سَتَسْتَمِرُّ رَقِيبَةً عَلَى الْقَرْيَةِ وأَنَّهُ ذَاتَ أَصْبَاحٍ سَيُبَاغِتُها بِبَعْضِ الْمُفَاجَآتِ. إِلَى ذَلِكَ الْمَوْعِدِ، كَانَ لاَ بُدَّ مِنَ الإِمْسَاكِ بَذَلِكَ الْمُجْرِمِ مَهْماً كَلَّفَ الأَمْرُ، فَكَانَ عَلَيْهِ ومِنْ تِلْكَ اللَّحْظَةِ أَنْ يَذْهَبَ مَعَ رِجَالِهِ كَيْ يُعَزِّزُوا الْقَوَّاتِ الْمُتَحَرِّكَةَ فِي الْقَرْيَةِ الْمُجَاوِرَةِ.
وَمَلأَتِ الْحَسْرَةُ الدِّيَارَ فِي آنُو. وكُلُّ شَيْءٍ بِهَا رَأْسٌ عَلَى عَقِبٍ: الأَوَانِي مُكَسَّرَةٌ والثِّيَابُ مُمَزَّقَةٌ والْعَوْلُ مَنْثُورٌ بَعْدَ أَنْ سَحَقَتْهُ الأَقْدَامُ.
فِي مَدْخَلِ الْقَرْيَةِ، ظَهَرَتْ يَمَّا نُوَّارَةُ وَفِيَّةً لِعَادَتِها. كَانَتْ تَمْشِي بِخُطَى وَئِيدَةٍ وحُزْمَتُها الْعَظِيمَةُ عَلَى ظَهْرِها. ولَكِنْ، لاَ أَطْفَالَ فَرِحِينَ يَصْخَبُونَ حَوْلَهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ.
وفِي شِبْهِ بَسْمَةٍ، تَقَدَّمَ إِلَيْهَا النَّقِيبُ. مِنَ الْمُؤَكَّدِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَجْهَلُ شَيْئاً عَنْ تِلْكَ الْعَجُوزِ، عَنِ ظُرُوفِ عَيْشِهَا، عَنِ ابْنِهَا الَّذِي كَانَ يَعْمَلُ فِي فِرَنْسَا والَّذِي انْقَطَعَتْ أَخْبَارُهُ مُنْذُ سِنِينَ. بَلْ يَذْكُرُ حَتَّى أَنَّها تُقَدَّرُ مِنْ مَوَالِيدِ 1900م، فَيَكُونُ سِنُّها عَلَى ذَلِكَ 58 سَنَةً. والْحَقُّ أَنَّ الأُمَّ نُوَّارَةَ هَتِهِ، كَمَا يَدْعُونَها هُنَا، ظَرِيفَةٌ. وَالْحَقُّ أَنَّ هَذَا النَّقِيبَ لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ فِي أَعْمَاقِهِ سِوَى أَنْ يُعْجَبَ بِِهَذِهِ الْمَرْأَةِ الَّتِي لاَ تَنْقَطِعُ عَنِ الْعَمَلِ الشَّاقِ وَعَيْشُهَا عَيْشُ فُقَرَاءَ. ومَعَ هَذَا، مُسْتَسْلِمَةٌ ورَاضِيَةٌ بِقَدَرِها...
ولَكِنَّ النَّقِيبَ الْيَوْمَ مُسْتَعْجِلٌ، وغَيْرُ رَاضٍ فَلَنْ يُحَيِّيَ الْعَجُوزَ إِلاَّ تَحِيَّةً مُقْتَضَبَةً.
شَكَرَتْهُ يَمَّا نُوَّارَةُ: نَعَمْ، صِحَّتُها جَيِّدَةٌ، وابْنُهَا كَعَادَتِهِ لَمْ يَكْتُبْ، والنَّقِيبُ لَطِيفٌ...
قَالَ النَقِيبُ: - مَعَ السَّلاَمَة !
وَدَخَلَتْ يَمَّا نُوَّارَةُ الْقَرْيَةَ مُنْحَنِيَةً تَحْتَ حُزْمَةِ الْحَطَبِ الْعَظِيمَةِ وبِخُطَى وَئِيدَةٍ.
***
سَتَبْقَى الْيَوْمَ فِي بَيْتِهَا. أَوَّلاً لأَنَّها مُتْعَبَةٌ، ولأَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ إِزْعَاجُ أَحَدٍ بَعْدَ يَوْمٍ كَهَذَا. وفِي حُجْرَتِها التُّرابِيَّةِ الْكَبِيرَةِ، جَلَسَتْ عَلَى الأَرْضِ الْعَارِيَةِ وبِحَرَكَاتٍ بَطِيئَةٍ، كَرَّرَتْهَا أَلْفَ مَرَّةٍ، أَخَذَتْ تَفُكُّ الْحَبْلَ الَّذِي كَانَ يَشُدُّ عِبْءَ الْحَطَبِ الثَّقِيلَ. فَإِذَا فُكَّ الْحَبْلُ، اِنْحَنَتْ بِتُؤَدَةٍ نَحْوَ الأَمَامِ ثُمَّ بِبُطْءٍ نَحْوَ الْخَلْفِ كَمَا لَوْ كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَتَمَدَّدَ عَلَى ظَهْرِهَا وحَطَّتْ حُزْمَتَهَا الْعَظِيمَةَ فِي كَثِيرٍ مِنَ اللِّينِ.
-حَمْداً لله ! قَالَتْ يَمَّا نُوّارَةُ وهِي تَقُومُ كَيْ تُوقِدَ مِصْبَاحَ الزَّيْتِ الصَّغِيرَ.
وإِلَى ضَوْئِهِ الْمُضْطَرِبِ، بَدَا كُلُّ شَيْءٍ رَأْساً عَلَى عَقِبٍ فِي الْحُجْرَةِ. اِكْتَفَتْ يَمَّا بِإِلْقَاءِ نَظْرَةٍ خَاطِفَةٍ وانْشَغَلَتْ مِنْ جَدِيدٍ بِحُزْمَتِها. فَكَّتْ شَطْبَاتِهَا مُتَحَدِّثَةً بِصَوْتٍ عَالٍ كَمَا لَوْ كَانَتْ تُشَجِّعُ نَفْسَهَا وقَالَتْ:
-هَاهُوذَا، هَاهُوَ ذَا ! اِنْتَهَى، الْحَمْدُ لله !
-فَقَالَتْ الْحُزْمَةُ:
-هَذِهِ الْمَرَّةَ، خِفْتُ فِعْلاً !
قَالَتْ يَمَّا:
-أَنا أَيْضاً ولَكِنَّ اللهَ مَعَنَا !
قَالَ عَلِيٌّ وَهُوَ يَسُلُّ جَسَدَهُ القَصِيرَ النَّحِيفَ مِنَ الْحُزْمَةِ:
-أَجَلْ، اللهُ مَعَنَا. أَظَنُّ الَخَطَرَ قَدْ مَرَّ.