بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
" الصيام وعلاقته بالإخلاص وحسن التوكل "
الحمد لله كثيرا وكفى والصلاة والسلام على المصطفى ، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى الأثر إلى يوم الدين
ما أسرع الزمن وما أشبه اليوم بالبارحة والأمس، فقد تكون هناك فروقات ومتغيرات لكن الموعد هو الموعد في دورة الزمن وسرعته ليوصلنا إلى محطات تعودنا المرور عليها ، في زمن أعمارنا بل وفي زمن أعمار خلت من تاريخ أمتنا ، بل وحتى قبل أمة الإسلام مما كان يعرف قبل الإسلام وبمجيء دعوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالة الإسلام تقررت بعض العادات والمناسك وصارت لها صلة بديننا الحنيف ومن فروضها أو سننا ، وصرنا لا ننحني عن الإلتفاف حولها سواء جماعة أو فرادى ولا ننفك عن القربى بها إلى الله تعالى ,,,
أصل الصيام :
كان الصيام تعبدا لله من سائر الأمم السابقة ، وللأمة الإسلامية الأسوة والقدوة بالأمم السابقة في مشروعية الصيام وأصل الفريضة ، وتبين الآية الكريمة ما كتبه الله علينا في شعيرة الصيام كما كتبه على الأمم السابقة ، فيقول عز من قائل (( {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183]
استحضار النيات لاستقبال الشهر قبل دخوله :
هذا الشهر التاسع بعد أفضل الشهور عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ شعبان ـ الشهر الذي قال عنه رسول الله عليه الصلاة والسلام :عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله ، لم أرك تصوم شهرا من الشهور ما تصوم من شعبان ؟ قال:
( ذاك شهر يغفل الناس عنه ، بين رجب ورمضان ، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين ، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم ) حسنه الألباني .
فصار الصيام عند أمة الإسلام خصوصا ما تعلق بشهر رمضان ، الركن الأساسي من أركانه وقواعده ، ويعتبر إلزاميا على جميع المسلمين ، مبعثا على رابط يربط قلب المؤمن بهذا الزمن وحضوره ووجوبه فرضا ونسكا وكل ما يقترن به من شعائر ، فتسبق له الأرواح تحليقا في ملكوت الرحمان، وتتعلق بنسائمه ونفحاته وروائحه الدالة عليه من بعيد قبل حلول شعبان أو خلال أيامه ، فيتحسس المؤمن بروحه نشوة الأماسي والغروب وحتى الفجر والصباح كل يوم يُدْبر فيه شعبان بالعد التنازلي ويقبل مقتربا به من هذا الشهر الفضيل ، وتسبق النيات إليه ولزمانه بصدق التحضيرات النفسية والروحية والقلبية والبدنية ، وتتصالح فيه النفوس وتتناصح لرفع الهمم وتقوية العزيمة بحسن التوكل على الله وتأدية واجب الصيام والقيام والتسابق للخيرات في هذه المزرعة الوافرة الغلال ، وكأني بكل النفوس تحلق بروح واحدة ، تتأهب وتتزين لاستقبال ضيف عزيز وغالي جدا مع أننا اعتدناه في كل سنة ، لكن لكل سنة نية وتجديد وعزم على تقوية العلاقة بالله من خلاله وبذل الجهد في تقديم الأفضل فالأفضل ، وهذا من درجات الخلاص لله.
النية في الصيام وشهر رمضان :
عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إنما الأعمال بالنيّات ، وإنما لكل امريء مانوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها ، أو امرأة ينكحها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه ) رواه البخاري ومسلم في صحيحهما .
لأن لكل امرئ نية وله ما نوى,فالنية مهمة في جميع الأعمال وهي مدار تقبل العمل الصالح ، ولكل عمل نية مسبقة ، فمن بيت نية الصيام من أول شهر وأول ليلة وتجديدها في كل ليلة ، فهذا يعني الكثير في ثبوت وقبول العمل ، وليس هذا كمن بات دون نية الصيام وأصبح فلم يأكل ولم يشرب حتى انتهى النهار وجاء وقت الغروب وأكل ، فمدار قبول العمل يختلف باختلاف النيات ، وصلاحها ، والإخلاص فيها ، لذلك لم ينتفع المنافق بعمله لأن نيته ناقصة أوليست صالحة ولم يخلص نيته لله .
وعلى هذا فإن جمهور العلماء متفقون على أن النية تعد شرطاً لازماً لصحة الصيام خلافاً للإمام زفر – رحمه الله – الذي يرى أن صيام شهر رمضان لا يحتاج إلى نية
وقد نص العلماء على أنه يشترط للصوم نية جازمة، فمتى لم يوجد الجزم بالنية لم يصح الصوم فرضا.
قال في أسنى المطالب: وَيَجِبُ في الصَّوْمِ نِيَّةٌ جَازِمَةٌ مُعَيِّنَةٌ كَالصَّلَاةِ وَلِخَبَرِ إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وجميع ذلك يجب قبل الفجر في الفرض ولو نذرا... انتهى بتصرف.
كلنا نعرف وندرك أن الوقت هو العمر ، والله عز وجل يقول ، (( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ )) آية 56 الذاريات
للنية أثر وأحكام في عمل الإنسان ، ولأن الصوم عمل وعبادة خفية بين العبد وربه ،بالجوارح والأفعال ، ليس فيه رياء ، على خلاف بعض العبادات أجره وثوابه على الله وهو يجزي به ، وهذا السر العظيم الذي ينتظر كل مسلم صائم على درجة صدق نيته وإخلاصه وتوكله على الله في ترك قيمة ومقدار ونوع الجزاء على الله يوم القيامة ، لا نعلم درجة الثواب على عبادة الصوم ولا كمية الحسنات ، ولأن كل فريضة معلوم أجرها إلا فريضة الصيام فهذا دافع هام للصدق مع الله وحسن التوكل وفي هذا الباب ذكرت أحاديث تبشر الصائم فيشعر برفع منزلته لدرجة لا يعلمها إلا الله
** عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:قال كل حسنة يعملها ابن آدم عشر حسنات إلى سبع مئة حسنة يقول الله عز وجل إلا الصوم هو لي و أنا أجزي به يدع الطعام من اجلي والشراب من أجلي وشهوته من أجلي فهو لي وأنا أجزي به والصوم جنة وللصائم فرحتان فرحة حين يفطر وفرحة حين يلقى ربه ولخلوف فم الصائم حين يخلف من الطعام أطيب عند الله من ريح المسك ** رواه أحمد
حسن التوكل على الله وإخلاص النية في هذا الشهر :
رويدا رويدا نقترب من الشهر الفضيل ، فليسأل كل واحد منا عن نياته ودرجة إخلاصه ، ولماذا نتسابق فرحا بهذا الشهر وماذا أعددنا له ، من تحضيرات ، ومالأهم فالمهم .
- في عالمنا الإسلامي تفرقت النيات وكل إناء ينضح بما فيه ، نيات مادية ، وأخرى معنوية وروحية ، فينا من يفرح بقدوم الشهر للكسب والتجارة وزيادة المال والتوسعة على العيال ، وفينا من ينوي إشباع رغباته وغرائزه في الأكل والشرب وتنويع أطباق المائدة عند الإفطار وبعده في السهرات والإجتماع بالعائلات وتبادل الزيارات ، والسهر والسمر حتى السحور ومطلع الفجر ويا ليتنا نتذكر النية في كل هذا بالتقرب من الله ، بل ليتنا نقدر على ملإ البطون حقا بكل ما حُضر من أطباق منوعة ، بل هو إهدار للوقت والمال والطعام ، وإنما هي لقيمات تشبع وتغني عن كل الطعام المكدس بشهادة الكثير من أهل الشهوات ، ويبقى الأكل بالعين فقط !
حال الناس في رمضان :
- لو تسأل كل صائم مالذي تشتهيه في مائدة إفطارك لقال كل ما لذ وطاب لي وأنا آكـِله وتلك شهوة الصائم لبطنه ، إنما يأكل ما قل ويترك الكثير ، فلكل وعاء قدر وسعة وإن زاد على حجم سعته ومقداره صار متخما مريضا ثقيلا بطيئا وسريع العياء ، فكيف لهؤلاء أن يلبوا النداء للصلاة والقيام وقراءة القرآن طيلة النهار وقد انشغلوا بصور الطعام ، وملإ البطون
- لو سألنا بعض الصائمين ، ماذا أعددتم من نوايا في هذا الشهر لقالوا : كل ما يكفي لتقوية أبداننا بنية القيام ليلا والصيام نهارا والصلاة والذكر وقراءة القرآن ، والأكل والشرب إنما هو رزق حاضر من الله ولا نكلف أنفسنا بجهد كبير لأجله ولا بصرف التفكير الشديد فيه ، بما أن خير الله حاضر ، والرازق موجود ، فالرزق مُدبر ، ولا يعيينا هذا بل كل التفكير في اغتنام أيامه وتوجيه النية الصادقة في كل حيثياته ، وتنظيم وقته وحسن التوكل على الله في التدبير والعبادة ، حتى لا نفوت فرصة التسابق للخيرات .
- لو سألنا ربة بيت ، تأكلها الحسرة على وقت كثير ضاع منها وهي تعد هذا الطبق وتجهز الآخر وتحضر المائدة ، ويد هنا وأخرى هناك ، وتلبي كل شهوات رب البيت والعائلة ، لقالت إنما هي ليست رغبتي تلك ، وأنا مرغمة ، فأنا متحمسة لآداء ما يجب علينا في شهر الصيام من عبادات ، وياليتني أقدر وأين لي الوقت والقوة لكل هذا ، ولو كان في وسعي لفعلت كل شيء وما ينفعني أيضا ، حرصا على عدم ضياع نية الصوم والتلاوة واغتنام وقت رمضان الذي ضيعت أكثره في التعب وشغل البيت ، وما أن يأتي الإفطار حتى أجد نفسي منهكة وينتظرني أيضا شغل كثير في المطبخ بعد الإفطار ، فوقتي أكثره مشتت في هذا الجهد ولا يسعني أن أجد مفرا لتلاوة كتاب الله وأتحسر عل ضياع بعض النوافل ، وأسعى جاهدة للحفاظ على الفرائض ، لكني أنوي دائما وأبدا ان تكون حركتي في بيتي ومطبخي وشغلي ، بل وأنفاسي بتسابيح، وكل ما أفعله خالصة مخلصة لوجه الله تعالى عسى أن يرفع ما بي من حرج وقلة حيلة في تنظيم وقتي وتوجيه أكثره في العمل بالطاعات والإزدياد منها بدل الإفراط في ما لا ينفع بل يضر.
عجبا لمن يفكر في مائدة رمضان وكيف تكون السهرات ويبرمج لكل ليلة كيف تكون ، ويهمل الأهم في هذا الشهر ، فهلا راجعنا جدول حياتنا وتوجهنا بمحاسبة أنفسنا وفرض تنظيم محكم قبل دخول الشهر ، وتحضير الروح له وجو العبادة الحقيقي ! دون إفراط ولا تفريط في الوقت والزمن لأنها الفرصة الغالية التي قد تأتيك ولا تعيدك مراحل الزمن لها ، وقد تكون فرصتك الأخيرة فكيف تسهو عن هذا وتلهى بغيره يا مسلم
كيف تجعل من كل وقتك عبادة :
في هذا الشهر بالخصوص إنما هي أيام معدودات من أعمارنا ، فيه تجلي الرحمان ، بالمغفرة والرحمة والعتق من النيران ، وفيه ليلة خير من ألف ليلة ، وفيه وفيه وفيه من كل خير مضاعف الحسنات والأجر ، كيف نغفل عنه لحظة ولا نأتي بأفضل ما عندنا لنطرحه بين يدي رب العالمين ونفرح بفرح الصائمين القائمين والمرتلين لكتاب الله !؟، ففي كل عمل أجر وأيما أجر ، هو الأجر المضاعف ، وهو الجزاء المفاجأة الذي جعله الله له بينه وبين عبده وهو يجزي به ،
روى البخاري (1761) ومسلم (1946) عن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( قَالَ اللَّهُ : كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ . . . الحديث ) .
فبقدر الإخلاص والتوكل على الله وحسنهما يأتي الجزاء من رب العالمين وبقدر إقبال المؤمن على ربه ، يقبل عليه الله سبحانه وتعالى
ـ وانظرو إلى روعة كرم الله في الجزاء والذي يفسره هذا الحديث القدسي شرحا ومعنى :
عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل، قال:((إذا تقرب العبد إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإذا تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة)) رواه البخاري.
فلنسارع لتصحيح ما بنا من أغلاط أفسدت الأرواح والقلوب وتدنت بها درجة الإخلاص بيننا وبين ربنا في كل أعمالنا وعباداتنا
اللهم وفق الجميع لما يحبه ويرضاه واعلى درجاتنا ويسر أمورنا ،واجعل كل اعمالنا خالصة لوجهك الكريم لا رياء ولا سمعة فيها ولا يخالطها ما لا يرضيك عنا