انّ قلب المؤمن الصّائم ليتحسّر على توديع شهر النّفحات الربّانية. فقد
ورد عن عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، أنّه قال: ''يُنادي في آخر ليلة من
شهر رمضان: يا ليت شعري مَن المقبول فنُهنِّيه، ومَن المحروم فنُعزِّيه''.
وكان عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، يقول: ''مَن هذا المقبول منّا
فنهنّيه، ومَن هذا المحروم منّا فنعزّيه''.
أيُّها المقبول هنيئاً لك، أيُّها المردود جَبَّر الله مصيبتك. وخرج عمر
بن عبد العزيز، رحمه الله، في يوم عيد فطر فقال في خطبته: ''أيّها النّاس،
إنّكم صمتم لله ثلاثين يوماً، وقمتم ثلاثين ليلة، وخرجتم اليوم تطلبون من
الله أن يتقبّل منكم''. وكان بعض السّلف يظهر عليه الحزن يوم عيد الفطر،
فيقال له: إنّه يوم فرح وسرور. فيقول: صدقتم، ولكنّي عبد أمرني مولاي أن
أعمَل له عملاً، فلا أدري أيقبله منّي أم لا؟! ويُروى أنّ وهب بن الورد
قوماً يضحكون في يوم عيد فقال: إن كان هؤلاء تقبل منهم صيامهم، فما هذا فعل
الشّاكرين، وإن كان لم يتقبّل منهم صيامهم، فما هذا فعل الخائفين.
لقد كان العارفون يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه، ثمّ يهتمون
بعد ذلك بقَبوله ويخافون من ودِّه، وهؤلاء الّذين قال فيهم تعالى: {يُؤنون
ما أتوا وقلوبهم وَجِلَةٌ}. لذا، يقول ابن دينار رحمه الله: ''الخوف على
العمل أن لا يُتقبّل أشدّ من العمل''. وقال فضالة بن عبيد رحمه الله: ''لأن
أكون أعلَم أنّ الله تقبّل منّي حبّة من خردل أحبُّ إليّ من الدنيا وما
فيها'' لأنّ الله يقول: {إنّما يتقبّل الله من المتّقين}.
قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ''استكثروا فيه من أربع خصال: خصلتين
ترضون بهما ربّكم، وخصلتين لا غناء لكم عنهما: فأمّا الخصلتان اللّتين
ترضون بهما ربّكم: فشهادة أن لا إله إلاّ الله وتستغفرونه. وأمّا الخصلتان
اللّتان لا غناء لكم عنهما: فتسألونه الجنّة وتعوذون به من النّار'' رواه
ابن خزيمة. بل إنّ كلمة الاستغفار من أعظم أسباب المغفرة، فإنّ الاستغفار
دعاء، ودعاء الصّائم مستجاب، سواء في يومه أو عند فطره.
ومنها: ذكر الله كما ورد في الحديث: ''ذاكر الله في رمضان مغفور له''.
لذا، قلوب المتّقين في هذا الشهر تَحِنُّ، ومن ألم فراقه تئِنُّ.
دهاك الفراق فـما تصنع أتصبر للبين أم تجزع
إذا كنت تبكي وهم جيرة فكيف تكون إذا ودعوا
كيف لا تجري للمؤمن على فراقه دموع؟
وهو لا يدري هل بقي له في عمره إليه رجوع؟
عبّاد الله.. إنّ شهر رمضان قد عزم على الرّحيل ولم يبق منه إلاّ
القليل، فمَن منكم أحسن فيه، فعليه التّمام، ومَن فرَّط فيه فليختمه
بالحسنى والعمل بالختام، فاغتنموا ما بقي من اللّيالي اليسيرة والأيّام،
واستودعوه عملاً صالحاً يشهد لكم به عند الملك العلاّم، وودعوه عند فراقه
بأزكى تحيّة وسلام.