بقلم: نوار جدواني
.. عفوا يا سيدي! وولي نعمتي.. فلولا اهتمامك لم أكن شيئا مذكورا.. ولولا رعايتك لبقيتُ مع إخوتي وأخواتي الخمسة عشر أرعى الغنم مثلهم... ولكنها الفراسة، ورؤية العلماء، حين قلت لوالدي الريفي البسيط: لا تتركه يعود إلى الريف، عليك أن تواصل تعليمه مهما كلفك ذلك، كنتُ -وقتئذ- في السنة الأولى بمدرسة تهذيب البنين والبنات بمدينة تبسة. وعمل والدي بنصيحة الشيخ..
عفوا، أستاذي!
كنت أحضر دروس الوعظ في رمضان، أجلس قبالتك في المسجد، أستمع بكل جوارحي، أريد أن أشرب كل ما تقول، ولكن إدراكي –وقتئذ- لا يستوعب الدُر المنثور، فأتعجب كيف تحفظ كل هذه الأسماء التي تروي الحديث موضوع الدرس برواياته المتعددة، عرفت فيما بعد أن لرواة الحديث سلاسل. كم أنا نادم على صغر سني حين التحقت بالمدرسة.. فلما اتسعت مداركي، كنتَ قد اشتغلت بما هو أهم، إدارة المعهد الباديسي، ومعها رئاسة الجمعية التي ينوء بعبئها الثقيل أعتى الرجال، إنها الأمانة التي تركها لك الإمام الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، حين سافر إلى المشرق عام 1952 ليؤدي دورا آخر لا يقل أهمية عن الجمعية التي شبَت وترعرعت واستوت على سوقها..
عفوا يا إمامنا!
لا أملك ناصية البيان، فأقول فيك ما قال إمام النهضة الشيخ عبد الحميد بن باديس -رحمه الله- حين زار مدينة تبسة ذات يوم من عام 1929: "الأستاذ العربي ابن الزيتونة والأزهر، مشارك مشاركة قوية في علوم الشريعة والأدب، ذكي الفؤاد، صحيح الفكر والعلم، فصيح اللسان، محجاج، قوي الحجة، حلو العبارة، شديد الحب لدينه ووطنه، شديد في الدفاع عنهما، هذا الأستاذ نعمة من نعم الله على تبسة -لكن تبسة رغم ما فيها من ذكاء وتقدم، ومحبة في العلم- ما قدرتها حق قدرها (الشهاب: ج. 10، مج. 5، 1929).
وليس لي لغة الإمام الإبراهيمي، فأُثني عليك ثناءه حين قال: "والأستاذ التبسي –كما شهد الاختبار، وصدقت التجربة- مدير بارع، ومُربٍ كاملٌ، خرجته الكليتان الزيتونة والأزهر في العلم، وخرجه القرآن والسيرة النبوية في التدين الصحيح، والأخلاق المتينة، وأعانه ذكاؤه على فهم النفوس، وأعانته عِفته ونزاهته على التزام الصِدق، والتصلب في الحق وإن أغضبت جميع الناس، وألزمته وطنيته الصادقة بالذوَبان في الأمة، والانقطاع لخدمتها بأنفع الأعمال، وأعانه بيانه ويقينه على نصر الحق بالحجة الناهضة، ومقارعة الاستعمار في جميع مظاهره، فجاءتنا هذه العوامل مجتمعة منه برجل يملأ جوامع الدين، ومجامع العلم، ومحافل الأدب، ومجالس الجمعيات، ونواديَ السياسة، ومكاتب الإدارات، ومعاهد التربية (آثار الإبراهيمي: ج. 2، ص 218).
لا أستطيع أن أعبر عن ما يختلج في النفس من الاحترام والتقدير والامتنان، وما أشعر به دَيْناً يُطوِّق عُنقي، فأنت الوالد الروحي، غرست فيَ الصراحة، وغرست فينا حب الوطن. وحين امتدت يد الغدر لتغتالك في شهر الصيام، كنتُ بين إخوتي في الجبل الأبيض نجرني خلف العقيد محمود الشريف الذي أنهك قوانا، وأبداننا الهزيلة في المنطقة السادسة من الولاية الأولى، أوراس النمامشة..
لقد كنتَ قاسيا على نفسك حين اكتفى غيرك بما حصلوه من الزيتونة العامر، وعادوا إلى الوطن، وركبت الصعب، وتشوقت نفسك إلى ما هو أبعد من الزيتونة، إلى عاصمة المعز لدين الله الفاطمي، إلى الأزهر الشريف، لتنهل العلم من كبار علمائه، وكان الأزهر –آنذاك- في أزهى عصوره يواكب نهضة العلماء: الأفغاني، ومحمد عبده، ومحمد رشيد رضا.
كنت قاسيا على نفسك حين اختارك الإمام محمد البشير الإبراهيمي، الرئيس الثاني لجمعية العلماء بعد رئيسها الأول الإمام ابن باديس لإدارة المعهد الباديسي، فخاطبت الأساتذة بهذه العبارات:
"أيها الإخوان!
إن التعليم بوطنكم هذا، وفي أمتكم هذه تضحية وجهاد، لا مسرح راحة ونعيم، فلنكن جنود العلم في هذه السنة (1947) ولنسكن في المعهد كأبنائنا الطلبة، ولنعش عيشهم: عيش الاغتراب عن الأهل، فانسوا الأهل والعشيرة، ولا تزوروهم إلا لماما... أنا أضيقكم ذرعا بالعيال للبعد، وعدم وجود الكافي، ومع ذلك فها أنا فاعل فاعلوا، وها أنا بادئ فاتبعوا (آثار الإبراهيمي ج.2، ص 217) ونفّذتَ ما تعهدت به، وسكنت المعهد، ثم بيت الطلبة مع تلاميذك.
كنت قاسيا على نفسك وعلى غيرك وأنت تخاطب زملاءك في الجلسة الختامية للمجلس الإداري (أكتوبر 1952) وتقول لهم: "يجب علينا أن نتعلم محاسبة أنفسنا قبل أن نحاسب الناس، وقبل أن يحاسبنا الناس، يجب علينا أن نكون أشداء على أنفسنا حتى نستطيع أن نحتفظ بهذا الميراث العظيم، وأن نبلغه سليما لأبنائنا من بعدنا، ونحن حاملوا راية الدين والقرآن، وأن نكون أقوى روحا وأعظم همة، وأكثر تضحية من أولئك المبشرين والمبشرات الذين هجروا البلاد والأوطان، والصحب، والخِلان، وتركوا باريس، ولوندرة، ولاهاي، وغيرها، يجوبون أقطار الأرض للقيام بدعوتهم، تاركين الدنيا وراء ظهورهم".
كنت قاسيا على نفسك وعلى غيرك حين قلت محفزا لهم: "إن العالم العربي أجمع قد عرف هذه الآونة الأخيرة حقيقة المسلم الجزائري، بتلك المواقف العظيمة الباهرة لرئيسنا الشيخ البشير الإبراهيمي وبخطبه، ودروسه، ومحاضراته، وأعماله الجليلة الغالية، فليعلم العالم في الشرق وفي الغرب، أن الإبراهيمي ليس فلتة من فلتات الطبيعة عندنا، وليستعد كل منا لأن يقف مواقف البشير، وأن يكون لنا علمه، ونبوغه، وفصاحته، فالعار كل العار أن لا يكون لنا إلا بشير واحد، وليعلم هو وليعلم الناس أن له من يقف حواليه لشد أزره، وله من يقف وراءه، وله من يستعد لحمل الراية في ميادين الإسلام، والعربية، والإصلاح".
كنت قاسيا على نفسك وعلى غيرك حين قلت: "إنه لا يمكن إرضاء الإسلام والوطن، وإرضاء الزوج والأبناء في وقت واحد.. إنه لا يمكن لإنسان أن يؤدي واجبه التام إلا بالتضحية".
إنك تريد لهذا الوطن ما لغيره من أقطار الدنيا: حرية، وعلما، وثقافة، ودينا، وتساميا نحو العلا... يجب أن لا تبقى الجزائر ملتقى الذل، والعبودية، والجهل والفقر".
يجب علينا أن نستعد وأن نكون رجالا يتشرفون بحمل لقب الرجولة الكاملة، وأن نندفع لفتح المستقبل السعيد فتحا مبينا، ليسمو الإسلام سموا عظيما، ولننشر العربية انتشارا ذريعا، ولننسف إلى حيث لا رجعة تلك الخرافات، والبدع، والأباطيل، التي هي ضد أخلاقنا، وضد امتنا، وضد ديننا الحنيف، فإذا كنتم حقا –معشر العلماء- ورثة الأنبياء، فكونوا عند ظن الإسلام بكم، وسيروا –موفقين- لصالح أعمالكم، واصبروا، وصابروا، ورابطوا، واتقوا الله لعلكم تفلحون" (البصائر السلسة الثانية، عدد 204، 20 أكتوبر 1952).
كُنت وفياً لمبادئك، وأخلاقك، وشهامتك، ومروءتك، ورجولتك، حين آثرت البقاء مع الشعب الجزائري، تقاسمه المحنة حين غادرهُ غيرك إلى حيث الأمن والأمان، رغم التوسلات لك من جيش وجبهة التحرير الوطني، بأن تغادر، فحياتك مهددة بالخطر، فكان ردّك - على من حمل إليك الرسالة - :" هذا يُعتبر فرارٌ من الثورة، وسأبقى في الجزائر، مُدعّما لها، وكيف يُمكننا أن نشجع الشعب للالتحاق بالثورة، ونغادر نحن الجزائر؟". *
كنت تريد أن تعطي المثل لغيرك حتى يقتدوا بك، فخُضت معركة إحياء هذه الأمة مع محييها الإمام عبد الحميد بن باديس وصحبه الأخيار الكرام: معلما، وواعظا، ومربيا، ومجاهدا، طوال ثلاثين عاما، حتى اختطفتك يد الغدر الآثمة ذات ليلة غاب فيها نور الهلال الشاحب، في الرابع من شهر العبادة، شهر الصوم، حيث لقيت ربك صابرا، محتسبا، صائما، لتدخل - إن شاء الله- من باب الريان، إلى جنة الرضوان، مع الصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
* المرجع/ د. الهاشمي حمادي، ضابط في جيش التحرير الوطني، وهو من حمل رسالة قادة الولاية الأولى إلى الشيخ العربي التبسي، وسلمها له في نادي الترقي بالعاصمة، بحضور الشيخ الطاهر حراث- عليه رحمة الله-