لا أَعْرِفُهُ ولَمْ أَجْلِسْ إٍلَيْهِ. وهُوَ كَذَلِكَ لَمْ يَسْمَعْ حَتَّى بِوُجُودِي ولَكِنَّنِي مَدِينٌ لَهُ.ذَلِكَ، لأَنَّ سُبْحَانَهُ اسْتَجَابَ لِدُعَائِهِ فِي "الْمُلْتزم" أَمَامَ الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَة، فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وهُوَ يُؤَدِّي فَرِيضَةَ الْحَجِّ، بِأَنْ يَنْجَحَ وَلَدُهُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ ويَنْجَحَ كُلَّ مِنْ يَدْرُسُ عَلَيْهِ!
ذَلِكَ هُوَ دُعَاءُ الْمَرْحُومِ الْحَاجِّ مُحَمَّدِ الْبَشِيرِ شِيبان لابْنِهِ عَبْدِ الرَّحْمَن الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ- وَقْتَئِذٍ- الْعَاشِرَةَ مِنْ عُمُرِهِ ومَا يَزَالُ فِي مَسْقِطِ رَأْسِهِ فِي بَلْدَةِ "الشُّرْفَةِ" يَحْفَظُ كِتَابَ اللهِ.
واسْتَجَابَ اللهُ لِدُعَاءِ الْوَالِدِ، فَنَجَحَ الْوَلَدُ فِي تَحْصِيلِ مَبَادِئِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ والْمَعَارِفِ الْعَامَّةِ، وخَتَمَ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ فِي الزَّاوِيَةِ السُّحْنُونِيَّةِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْجَامِعَةِ الزَّيْتُونِيَّةِ الْعامِرَةِ فِي سَنَةِ 1938م وهُوَ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ عُمْرِهِ، ونَجَحَ فِي شَهَادَةِ الأَهْلِيَّةِ ثُمَّ نَجَحَ فِي شَهَادَةِ التَّحْصِيلِ، شُعْبَةِ الْعَلُومِ، عامَ 1947م.
وعَادَ إِلَى الْوَطَنِ أُسْتاذاً لِيَلْتَحِقَ بِمَعْهَدِ الإِمَامِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ بَادِيسَ –بَعْدَ افْتِتَاحِهِ- بِطَلَبٍ مِنَ الإِمَامِ مُحَمَّدِ الْبَشِيرِ الإِبْرَاهِيمِيِّ، رَئِيسِ جَمْعِيَّةِ الْعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ الْجَزَائِرِيِّينَ لِتَدْرِيسِ مَادَّةِ الْبَلاَغَةِ والأَدَبِ الْعَرَبِيِّ.
وأَصْبَحْتُ –بَعْدَ أَرْبَعِ سَنَوَاتٍ- وَاحِداً مِنْ تَلاَمِيذِهِ الَّذِينَ تَلَقَّوْا عَنْهُ فُنُونَ الْبَلاَغَةِ الثَّلاَثَةِ: الْبَيَانِ والْمَعَانِي والْبَدِيعِ، وكَانَ كَثِيرَ الاِسْتِشْهَادِ بِشَاعِرِهِ الْمُفَضَّلِ –حَتَّى الْيَوْمِ- أَبِي الطَّيِّبِ الْمُتَنَبِّي.
تُرَى، هَلْ كَانَ نَجَاحِي فِي سَنَوَاتِ الْمَعْهَدِ اسْتِجَابَةً مِنَ اللهِ لِدُعَاءِ الْحَاجِّ مُحَمَّدِ الْبَشِيرِ شَيْبانَ لابْنِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ لَيْسَ ذَلِكَ عَجِيباً ولاَ مُسْتَبْعَدا! وإِلاَّ فَكَيْفَ اهْتَدَى وَالِدِي الرِّيفِيُّ الْبَسِيطُ أَنْ يُرْسِلَنِي مِنَ الْبَادِيَةِ إِلَى مَدِينَةِ ابْنِ بَادِيسَ لأُوَاصِلَ تَعْلِمِي بَعْدَ "مَدْرَسَةِ تَهْذِيبِ الْبَنِينَ والْبَنَاتِ بِتِبَسَّةَ"، دُونَ إِخْوَتِي جَمِيعاً؟!
ودَارَ الزَّمَنُ دَوْرَتَهُ بِسَنَوَاتِهِ الْعِجَافِ، وتَفَرَّقَتْ بِنَا السُّبُلُ، وإِذَا التِّلْمِيذُ أُسْتاذاً بِثَانَوِيَّةِ الْمُقْرَانِيِّ (الْجَزَائِرِ) وأُسْتاذُهُ مُفَتِّشاً عَامّاً بِالتَّعْلِيمِ الثَّانَوِيِّ، ومُشْرِفاً فِي الْوَقْتِ ذَاتِهِ بِالْمَعْهَدِ الْوَطَنِيِّ التَّرْبَوِيِّ عَلَى تَأْلِيفِ الْكُتُبِ الدِّرَاسِيَّةِ الْخَاصَّةِ بِمَنَاهِجِ التَّعْلِيمِ الثَّانَوِيِّ، وكَانَتْ تِلْكَ الْكُتُبُ تَحْمِلُ فِي ثَنَايَاهَا أَفْضَلَ النُّصُوصِ وأَجْوَدَهَا وأَكْثَرَهَا نَفْعاً فِي الأُسْلُوبِ والْمُحْتَوَى.
ويَوْمَ حَضَرَ أُسْتاذِي الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ شِيبَان لِتَفْتِيشِي في الثَّانَوِيّةِ، أُسْقِطَ فِي يَدِي، رُغْمَ ابْتِسَامَتِهِ الَّتِي لاَ تُفَارِقُ وَجْهَهُ، ولَسْتُ أَدْرِي مَا الَّذِي جَعَلَنِي أَرْبِطُ تِلْكَ الاِبْتِسَامَةَ بِمَا عَنَاهُ شَاعِرُهُ حِينَ قَالَ:
إِذَا رَأَيْتَ نُيُوبَ اللَّيْثِ بَارِزَةً *** فَلاَ تَظُنَّنَّ أَنَّ اللَّيْثَ يَبْتَسِمُ
فَاضْطَرَبْتُ وتَلَعْثَمْتُ ولَمْ أَدْرِ مَاذَا كُنْتُ أَقُولُ لِتَلاَمِيذِي! ولَكِنَّ الَّذِي تَعَجَّبْتُ لَهُ أَنَّهُ أَثْنَى عَلَى الدَّرْسِ وعَلَى كَيْفِيَّةِ تَحْضِيرِهِ وإِلْقَائِهِ! فَهَلْ حَقّاً كُنْتُ أَسْتَحِقُّ هَذَا الثَّنَاءَ؟ أَمْ أَنَّهُ كَانَ مُجَامَلَةً مِنْهُ "لِفَسِيلَةٍ" مِنْ غَرْسِهِ ومِنْ غَرْسِ الْعَلاَّمَةِ الشَّهِيدِ الْعَرْبِيّ التِّبَسِّيِّ جَعَلَ اللهُ الْفِرْدَوْسَ الأَعْلَى مَثْوَاهُ – آمِين.
ودَارَ الْفَلَكُ مَرَّةً أُخْرَى، والْتَحَقْتُ بِالْمَكْتَبَةِ الْوَطَنِيَّةِ "مَحافِظاً مُكَلَّفاً بِالأَبْحَاثِ"...وتَقَلَّدَ مَعَالِيهِ مَنْصِبَ وَزِيرِ الشُّؤُونِ الدِّينِيَّةِ...فَاسْتَمَرَّتْ الصِّلَةُ أَقْوَى مِمَّا كَانَتْ فَأَصْبَحَ يُؤْثِرُنِي بِدَعَوَاتِهِ الْكَرِيمَةِ لِحُضُورِ مُلْتَقَيَاتٍ الْفِكْرِ الإِسْلاَمِيِّ الَّتِي كَانَ يُشْرِفُ عَلَى تَنْظِيمِهَا، والإِعْدَادِ الْجَيِّدِ لَهَا، واخْتِيَارِ مَوْضُوعَاتِهَا بِعِنَايَةٍ فَائِقَةٍ فَتَسْتَقْطِبُ كِبَارَ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْعَالَمْ الْعَرَبِيِّ والإِسْلاَمِيِّ، وتَحْضُرُهَا الْجُمُوعُ الْغَفِيرَةُ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ وأَسَاتِذَتِهِ لِتَكُونَ هَذِهِ الْمُلْتَقَيَاتُ مَنَارَاتٍ تَهْدِي السَّائِرِينَ إِلَى السَّبِيلِ السَّوِيِّ...وتِلْكَ كَانَتْ أَزْهَى سَنَوَاتِ الْجَزَائِرِ بَعْدَ الاِسْتِقْلاَلِ رُغْمَ شَظَفِ الْعَيْشِ!ولَيْتَهَا تَعُودُ مِنْ جَدِيدٍ فَتَسْتَرْجِعَ الْجَزَائِرُ بِذَلِكَ مَكَانَتَهَا بَيْنَ الأُمَمِ!وعِنْدَمَا سَنَحَتِ الْفُرْصَةُ وسُمِحَ لِلْجَمْعِيَّةِ أَنْ تَنْهَضَ مِنْ جَدِيدٍ، بَعْدَ سُبَاتٍ "مَفْرُوض"...ويُنْتَخَبُ سَمَاحَةُ الشَّيْخِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ شِيبَان رَئِيساً لَهَا –وهُوَ أَهْلٌ لِذَلِكَ – بَذَلَ مِنَ الْجَهْدِ الْكَثِيرِ لإْحِيَائِهَا وعَوْدَةِ نَشَاطِهَا، كَمَا كَانَتْ فِي عَهْدِ الثَّلاَثَةِ الْعُظَمَاءِ: ابْنِ بَادِيسَ والإِبْرَاهِيمِيِّ والتِّبَسِيِّ عَلَيْهِمْ جَمِيعاً رَحْمَةُ اللهِ ورِضْوَانُهُ...والشَّيْءُ مِنْ مَعْدَنِهِ لاَ يُسْتَغْرَبُ، فَالشَّيْخُ شَيْبان قَدْ تَرَبَّى فِي أَكْنَافِهَا، وسَاهَمَ فِي بِنَاءِ جِيلٍ مِنَ الشَّبَابِ الَّذِينَ نَشَأُوا عَلَى مَبَادِئِهَا السَّامِيَةِ، فَلَمْ يَحِيدُوا ولَمْ يُغَيِّرُوا ومَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً. فَالْتَفُّوَا حَوْلَهُ يَشُدُّونَ أَزْرَهُ ويَحْمِلُونَ مَعَهُ الْعِبْءَ الَّذِي أَثْقَلَ كَاهِلَهُ وأَوْهَنَ جِسْمَهُ الَّذِي لَمْ يَعُدْ مِثْلَمَا كَانَ...وَحْدَهُ الآنَ يَدْفَعُ ثَمَنَ الْجُهْدِ فِي الإِخْلاَصِ والتَّفَانِي فِي الْعَمَلِ وعِنْدَ اللهِ الْجَزَاءُ الأَوْفَى...وَلَيْتَهُ تَوَلَّى رِئَاسَتَهَا وفِي الْجِسْمِ بَسْطَةُ الْخَمْسِينِيَّاتِ ونَشَاطُهُ!نوّار جدواني
(حقائق وأباطيل للشّيخ عبد الرّحمن شيبان)