كم كنت سعيدا منشرح الصدر، مفعم العينين ودمعي لرأياها كالفُرَتان، فيض يسيل مدرارا على الخدين. كم كنت منبهرا تغمرني نشوة منْ حنين طيبة الأرض العفيفة، والخبز الطازج في الأفران، والماء المنبعث من الجدران وأزقتها التي تشهد ( لفِرزان ) القصبة وعروس بحر باب الوادي جميلة، المثالة والفضل وحسن كِفاء الواجب الوطني.
كم كنت محبورا وأنا أشاهد لأول مرة في حياتي على شاشة التليفزيون خلال الاحتفالات بالذكرى الثالثة والخمسين للفاتح من نوفمير، السيدة الحنونة، والرّائعة روعة أول نوفمبر، جميلة الجميلات جميلة بوحيرد.
كانت كما كانت عليه خلال حرب التحرير، ضاحكة ومبتسمة، مستبشرة وفرحة، ثابتة النظرات، متوازية الخطوات، كانت سيدة الملتقى بلا منازع وفِرزان بكل روائع.
كيف لا ورئيس الجمهورية ظل ممسكا بأناملها اللينة، ليقول لضيوفه ولكل العالم بأن إلى جانب كل رئيس عظيم امرأة عظيمة، ووراء كل وطن مجيد وشامخ مجاهدة عظيمة، فلنبقى على قيد النساء العظيمات ليستمر الوطن وتستمر الحياة.
هذه المرأة أتعبت فرنسا وجيشها وحلفائها، ولم تتعب. وهبت شبابها للجزائر، وناضلت إلى جانب فتيات كثيرات، لأجل أن تنعم الجزائر بالحرية والاستقلال.
قبل هذا الحدث كنت قد قررت أن أعيد نشر هذه الدراسة المتواضعة، بعد إدخال بعض التعديلات الطفيفة عليها. وقد سبق لي ونشرته لأول مرة في شهر فيفري من سنة 1995 بجريدة النصر على حلقات، رغم النقص الفادح آنذاك في المراجع المهمة لمثل هذه الدراسة، التي لم تكن متوفرة لدي في تلك الآونة.
أنا، أولا وقبل كل شيء، لست لا أكاديميا ولا باحثا ولا مؤرخا، وإنما شاعرا وأديبا، أشغل حاليا منصب إطار محاسب ومالي في شركة وطنية كبيرة.
في هذه سنة قررت إعادة صياغة وإثراء هذه الدراسة بما ينسجم والمكانة النضالية التي تمتاز بها جميلة بوحيرد في قلوب الجزائريين بصفة عامة وقلوب الشعوب العربية بصفة خاصة.
لقد قطعت عهدا على نفسي بأن أصدر في الشهور المقبلة، بإذن الله عز وجل، كتابا جديدا عن جميلة يحمل نفس العنوان، وهذا بعدما تحصلت على عدة مراجع قيمة في نفس الإطار. متمنيا في نفس الوقت مقابلة جميلة بوحيرد، والدردشة معها . إن هذا الحلم قابل للتحقيق رغم تباعد المسافات التاريخية والجغرافية بيننا والأمور الأخرى التي تحول دون ذلك.
***
بعدما استولت فرنسا على الجزائر في عام 1830 كان في نيتها المكوث بها للأبد، ضاربة بعرض الحائط القوانين والأعراف الدولية. واستولى المستوطنون على كل خيرات البلاد، من أراضٍ فلاحية ومصادر طبيعية، بالنهب والسلب. عمل الاستعمار الفرنسي منذ الوهلة الأولى على القضاء على الهوية الجزائرية العربية المسلمة، واستبدلها بهوية لا شرقية ولا غربية، حيث لا يشعر الجزائري أنه ينتمي إلى الأمة العربية ولا إلى الأمم الغربية. واستمر الحال على حاله لعقود وعقود رغم الثورات التي باشرها بعض من الأحرار في الجزائر، أمام الاستبداد الفرنسي، مثل المقراني، وبوعمامة والأمير عبد القادر، ولالة نسومر وغيرهم من البواسل، والليوث واللبؤات.
أمام هذا الوضع المزري، خاصة بعد مجزرة الثامن من ماي سنة 1945 كان لابد للشرفاء أن ينضموا صفوفهم من أجل التصدي لهذا العدوان الغاشم المتجذر في أرض الجزائر.
وكان الحدث أكبر من حجم فرنسا والحلف الأطلسي وترسانته القتالية والحربية. بفضل الإيمان والعزيمة زلزل المجاهدون الثرى في المدن والأرياف، تحت أقدام ونعال الفرنسيين وحلفائهم في الداخل والخارج.
والتفت الشعوب العربية في كل مكان حول الثوار الجزائريين وحول مبادئهم الشريفة والنبيلة، وجاء الدعم من كل حدب وصوب، ليزيد الشعب الجزائري إصرارا على طرد المحتل الغاشم. لقد أحدثت ثورة التحرير في عقول الجزائريين قفزة نوعية من حيث القدرة والجرأة على القتال الند للند أمام المستعمر الظالم. من هنا خرج الرجال والنساء، والأطفال والشيوخ لنجدة المجاهدين في الجبال والمدن والأرياف ونصرتهم، ودعمهم بكل ما يملكون من قوة المال والسلاح. وعندما تجرأ الزوجة، أو الأم أو الفتاة للتبرع بكل ما تملك من حلة وذهب ومجوهرات، تدرك أن الثورة الجزائرية ليست ككلّ الثورات، لا في المفهوم الأكاديمي، ولا في المفهوم العسكري.
وتدرك أيضا أن هذه الثورة كانت مباركة من السماء، بفضل كل التضحيات التي منحها الشعب الجزائري السيد الحر، الذي لا يرضخ للذل والهوان.
إن الذين خططوا ونظروا ونسّقوا لهذه الثورة، ثم أعلنوها ثورة مباركة، في ليلة الصفر من شهر نوفمبر، كانوا بحق أبطال عاهدوا الله على نصرة الوطن وتحريره من الأيدي الغاشمة. هؤلاء الرجال كانوا يدركون مسبقا أن الشعب سوف يحتضن الثورة ويحتضنهم، لهذا ألقوا بها إلى الشارع، وهم متيقنين من نظريتهم النضالية ومن نسبة النجاح. فكان الشعب بحق مناصرا قويا لها ولهم، وهنا ألتحم الجمعان في معركة الشرف والسيادة، وثاروا في وجه العدو وأجبروه على التقهقر والاندحار أمام عزيمة الإيمان والانتصار، وكانت الشهادة المطلب المبارك من أجل تحرير الوطن من مستعمر غاشم ومجحف وبربري. فسالت الدماء الزكية الطاهرة في كل مكان وفي كل بيت، واستمر النضال بآخر قطرات الدم في أجسام المجاهدين والمجاهدات، واستمر الصمود والتصدي بكل قوة وعزم.
وكانت للمرأة الجزائرية المكانة المرموقة في الساحة القتالية، وكانت بحق نعم المجاهدة، ونعم الزوجة ونعم الممرضة. كانت نارا على المستعمر في كل مكان، كانت نورا يضيء للشعوب طريق العتق وخلوص الأصل، طريق الحرية والشرف. كانت زهرة تنشر عطرها بين المواطنين عبر النسيم.
رغم أن دروب الثورة لتحقيق الاستقلال لم تكن مرشوشة بالورود، بقدر ما كانت مزروعة بالأشواك والخطوب، إلاّ أن المجاهد الجزائري وقفت إلى جانبه المرأة الجزائرية لتخوض معه أنبل ثورة في العصر الحديث، بإمكانيات متواضعة، قياسا بالأسلحة التي كانت في حوزة المستعمر آنذاك. هكذا هي المرأة الجزائرية المناضلة الباسلة، عبارة عن نشيد هائج، متلاطم الأمواج، لا يهدأ حتى تهدأ في وجهه العاصفة. لم تكن المرأة الجزائرية في حقبة الاستعمار متخلفة أو جاهلة كما ظل يزعم المستعمر، بل كانت، رغم الظروف الصعبة التي مرت بها، واعية ومستعصية على الذل والإذعان.
شاركت المرأة في الجهاد، ليس من باب التهور والاندفاع العشوائي، بل بانضباط وسلوك حضري. قاومت وجاهدت من أجل قضية إنسانية عادلة، عدالة الله في الأرض. كانت المرأة الجزائرية تعبر عن مكانتها المرموقة في المجتمع الجزائري وهويتها العربية الإسلامية، بعدما حاول طمس شخصيتها المحتل الجائر بكل الوسائل التّرّهة والباطلة منها والإعلامية.
المتصفح لقاموس الثورة الجزائرية يدرك مدى سرده لنساء كثيرات شاركن في حرب التحرير وضحين بكل ما يملكن من غال ونفيس، والأسماء كثيرة وكبيرة، كبر مساحة الجزائر الجغرافية.
ورغم طول القائمة، أخص بالذكر بعض من المجاهدات اللبؤات : جميلة بوحيرد، جميلة بوعزة، جميلة بوباشة، خيار خديجة، زهور ونيسي، جاكلين قروج وغبرهن. أما الشاهدات فهن أيضا كثيرات ومن بينهن : مليكة قايد، حسيبة بن بوعلي، فضيلة سعدان، وغيرهن.
في هذه الدراسة أردت، كما يشير إليه العنوان، تسليط الضوء والتركيز على المجاهدة جميلة بوحيرد، لتكون رمزا لكفاح المرأة الجزائرية، وعفويتها النضالية في وجه الاستعمار.
بعد تكالب الدول الغربية على خيرات وثروات الدول العربية في المشرق والشام والمغرب العربي، وبعدما منيت الجيوش العربية بهزيمة 1948 التي أحبطت طموح الشعوب العربية في العيش في عزة وكرامة، ترنم الشعب الجزائري ببطولات أسوده الذين ألحقوا بالجيش الفرنسي الهزائم تلوى الأخرى. فتنهدت الصعداء الشعوب العربية المحبطة، وراح الشعراء والأدباء والفنانين يتغنون بها، لا لشيء سوى لأنها كانت حقيقة ثورة عظيمة بكل مقاييس الحروب العالمية، ولا يزال العرب يفتخرون بها إلى حد الآن، وهو ما أشاد به العلامة والداعية اللبنانية الدكتور فتحي يكن، العام الماضي بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان، وخاصة جنوبه.
جميلة بوحيرد اسم سبب الأرق والسهاد لكثير من الجنرالات الفرنسية الذين ذلوا أمام شجاعتها. كانت جميلة مثل كل مجاهدة جزائرية مصنوعة من نار وحديد، من رماد وبركان. كانت شمعة تنير للإنسانية جمعاء دروب العزة والكرامة والخلاص. بدر شاكر السياب يعتبرها ربة وآلهة بابلية مثلها مثل ( عشتار ) آلهة الخصب والحب والإحسان. أما الشاعر العراقي جواد البدري فقد جسد واختصر الثورة الجزائرية في شخصية جميلة ونضالها واعتبرها فكرة كامنة في النفوس والعقول، ومنغمسة كجذور أعجاز النخيل في أديم الثرى والوديان والبساتين. لهذا فهي لا تموت لأنها مغروسة في العقول النيرة وفي النفوس الخيرة، وفي دموع الكادحين.
أصدرت المجاهدة لصفر خيار خديجة سنة 1993 كتابا بعنوان ( النداء الخالد )، عن المؤسسة الوطنية للكتاب، تروي دواليب كفاحها وبطولاتها فيه، وقد ركزت كثيرا على الأيام التي قضتها في سجن بربروس مع زميلاتها في الكفاح وتنقلها عبر سجون أخرى بفرنسا، وكانت جميلة بوحيرد إحداهن. ومما جاء في بعض من حديثها عن بسالة وشجاعة جميلة :" طلبت جميلة من والديها قبل محاكمتها بأيام قليلة أن يأتوها بمنديل أحمر، وتنوره خضراء، وقميص أبيض، وعندما صدر الأمر لبدء المحاكمة، ارتدت جميلة ملابسها بألوان العلم والحرية، وسيقت بها إلى دار المحكمة العسكرية ولسانها يردد الأناشيد الوطنية، ويدها تلوح بالمنديل الأحمر، ذات اليمين وذات الشمال. وانتهت المحاكمة بعدما دامت أياما، بإصدار الحكم بالإعدام في شأنها. فأعدتها الشرطة الاستعمارية إلى سجن بربروس، وكلّ الأخوات والإخوان المجاهدين كانوا جميعا ينتظرون عودتها وراء الجدران والقضبان. وما إن دخلت السيارة العسكرية إلى الساحة ونزلت منها جميلة، حتى هتف الكل بالسؤال عن نتيجة البحث والمحاكمة، فرفعت رأسها إلى السماء، ثم صاحت بأعلى صونها وقوتها منشدة :
تضحيتنا للوطن خير من الحياة
أضحي بحياتي وبمالي عليه
فاهتز السجن اهتزازا عظيما بكل ما فيه ومن فيه، وقامت في داخله مظاهرات صاخبة ورائعة، لم ير العدو لهل نظير ولا قرين. منذ ذلك الحين وجميلة تعيش في عزلة تامة، وحرمان واضطهاد جسدي ومعنوي بين جدران زنزانتها الضيقة والمنزوية، التي كانت تطل على قناة الشهيد وساحة المقصلة. في تلك المرحلة المريرة من سنة 1957 عاشت جميلة أصعب أيامها، لكنها ظلت صامدة، كانت مواظبة على إنشاد الأشعار والأناشيد الثورية بصوت رقيق وجميل، خاصة عندما يدرك السجناء أن هناك عملية إعدام في حق المناضلين من السجناء."
وتذكر لصفر خيار خديجة الملقبة بدانية التي كانت مسجونة في الزنزانة رقم خمسة، والتي كانت مقابلة لزنزانة جميلة بوحيرد : " والجدير بالذكر أن العديد من الشهداء رحمهم الله، ممن نفذ فيهم حكم الإعدام، تحت نافذة جميلة، امتلأت آذانهم وقلوبهم بصوتها وأناشيدها الوطنية الحارة حرارة الدم الذي يسري في جسدها وعروقها، قبل أن يصعدوا سلم الموت ودرج المقصلة. لقد حملوا معهم جميعا ذلك اللحن الخفاق الطاهر، إلى أرواح كل شهداء الوطن والحرية في السماء."
جميلة بوحيرد من مواليد 1935 بمدينة الجزائر وبحي القصبة الشهير، الذي ترعرعت فيه وأحبته، وهي الفتاة الوحيدة ما بين إخوتها الخمسة. قبل انخراطها في الحرب التحريرية في بداية سنة 1956 وهي بعد صبية، كانت قد تعلمت في مدرسة الأنديجان وقد تحصلت على الشهادة الابتدائية، لكنها لم يسعفها الحظ لمزاولة دراستها لأن الاستعمار لم يكن يسمح للجزائريين من مزاولة دراساتهم مثل الفرنسيين. ومع هذا فقد كانت مشبعة بحب التعلم والمعرفة، فتوجت لدراسة الخياطة وتحصلت على شهادة الكفاءة المهنية من مدرسة سوسطارة.
كانت قد أحبت النضال، وهي التي ترعرعت في بيت عائلي مؤمن بالجهاد في سبيل الله، وكان عمها "مصطفى" مواظب ومثابر على مساعدة المجاهدين، بحيث أن منزله ظل مخبأ آمنا للثوار.
عملت جميلة بالمجموعات المسلحة، وكانت مجموعتها معروفة لدى الاستخبارات العسكرية بمجموعة واضعي القنابل والمتفجرات، كما كانت تقوم بنقل الأسلحة ما بين الأماكن المتعارف عليها مسبقا بين قيادات المجموعات التي كانت تنشط في العاصمة، ووضع القنابل في أماكن كان يرتادها غلاة المستعمرين. إلى أن اعتقلت في 09/04/1957 بعدما حاصر المظليون المنطقة الشمالية الغربية التي كانت مسرحا لمعركة الجزائر طوال عدة شهور. وقد تم، بعد وشاية من أحد العملاء، مطاردة مجموعة جميلة المسلحة وإطلاق النار عليهم في أزقة القصبة الضيقة، وقد سامها المظليون الفرنسيون أشد أنواع العذاب.
يقول فرجاس محامي جميلة وزوجها السابق الذي أنجبت معه طفلين، في الكتاب الذي أصدره مع الكاتب الفرنسي جورج أرنو، على لسانها ما يلي: " كنت من التاسع إلى السادس والعشرين أفريل بدون انقطاع أخضع للاستجواب والتعذيب في مستشفى مايو، وفي الفيلتين اللتين تم حجزي فيهما من طرف المظليين. ثلاثة أيام من السابع عشر إلى التاسع عشر، وأنا أتعرض لأذى ووجع الكهرباء. وقد تم وضع مجاري كهربائية في الفرج، في المناخر، في الأذنين، في الفم، تحت الإباط، على أبزاز ثدييا، اللذان بهما حتى الآن حروق، على أفخاذي التي بها آثار حروق أيضا.
وتواصل جميلة سرد فصول إلقاء القبض عليها، وأنواع التعذيب والتنكيل التي تعرضت لهما على أيدي جلاديها وسجانيها، مما أفقدها وعيها:
" الجلسة الأولى في ليلة السابع عشر إلى الثامن عشر، دامت من الساعة التاسعة ليلا إلى الثالثة صباحا، حتى أغمي علي وبدأت في الهذاء"
وقد أكدت المجاهدة الطبيبة السيدة ( جانين بالخوجة ) التي تقاسمت جميلة غرفة السجن، كل هذه الاعترافات، وهذا بعد قيامها بفحوصات طبية عليها من بعد الإفراج عنها. وسوف أتطرق إلى كل هذا في كتابي الجديد إن شاء الله.
هكذا كانت فرنسا خلال حرب التحرير، فرنسا الإجرام، والإعدام، والتنكيل، والتهجير، والتقتيل العشوائي، والاغتصاب، وهكذا كانوا جنرالاتها المجرمين من ( بول أوساراس ) و ( سلان )، و( ماسو )، إلى الوزير المقيم آنذاك ( روبار لاكوست )، وإلى ( فرانسوا ميتيران ) و ( ديغول ) وغيرهم، حتى قانون تمجيد الاستعمار، الذي عر الوجه الحقيقي الفرنسي.
فرنسا الثابت فيها والمتغير واحد مهما تعاقبت الأزمنة، وتغيرت الأمكنة، بحيث أنها كانت ولا تزال على ثباتها وعهودها اتجاه الجزائر. وبما أن فرنسا هي ( جاك شيراك ) على مر العصور، فإن أبو" الاتحاد المتوسطي " ( نيكولا ساركوزي ) هو فرنسا إلى يوم النشور.
إن أبو " الاتحاد المتوسطي " ليس له وقتا للاعتذار ولا وقتا للتأسف عن جرائم بلاده، لأنه معجب بالمطرب ( أنريكو ماسياس ) إلى حد النخاع.
إن الشعب الجزائري، شعب لا يطيق الخداع، بل شعب شجاع يثور إذا ما يوما حقه بين الدواليب ضاع. شعب لا يركع ولا ينصاع، مهما كانت الأوضاع. إن الرئيس الفرنسي والمطرب (أنريكو مسياس)، المتصلب بيهوديته، أحيا الآلام والأوجاع، واخلطا أوراق الجبهة الداخلية المنقسمة على الأرباع. فلا صوت يعلو على صوت تأجيل المطالبة بالاعتذار، وتبجيل حلا متوسطي، لحين يكبر الأحفاد وأحفاد الأحفاد الصغار والكبار، وربما أولاد الجيران الأبرار ليطالبون أحفاد الرئيس ( نيكولا ساركوزي ) أو أحفاد ( أنريكو ) بالاعتذار.
لكن غالبية الشعب الجزائري يطمئنون من لا اطمئنان في قلبه كي يطمئن، على الأقل قبل موته، بأن أبناء وأحفاد كل مجاهد حر وكل شهيد ما كر يوما وما فر، باقون على عهد قسما بدون بتر ولا اجترار. لأن أحمد زبانا، الذي أعدم يوم 18/06/1956، قد عاد هذا الأسبوع على أمل الرجوع يحمل تابوته على أكتافه فخورا، لا بل " قام يختال كالمسيح وئيدا / يتهادى نشوان يتلو النشيدا ".
قد عاد ذاك السندباد الذي لا يخشى الموت والرماد، ألم يقل لفرنسا: " أشنقوني فلست أخشى حبالا / واصلبوني فلست أخشى حديدا ".
من لا يعرف زبانا أقول له أنه من طينة العربي بن مهيدي وجميلة بوحيرد وغيرهم، بحيث لا يخاف جلاده ولا قسوته، لأنه بالنسبة إليه جبان وسافر: " وامثل سافرا محياك جلاّدي، / ولا تلثم، فلست حقودا ". الموت عنده قضاء وقدر وبطبيعة الحال لا مفرا منه : " واقض يا موت في ما أنت قاض / أنا راض، إن عاش شعبي سعيدا ". لقد ناضل وكافح ومات من أجل :
يا فرنسا قد مضى وقت العتاب / وطويناه كما يطوى الكتاب
يا فرنسا إن ذا يوم الحساب / فاستعدي وخذي منا الجواب
هذا هو جواب مفدي زكريا وأحمد زبانا وكل الأحرار، وهذا هو جواب الشعب الجزائري المغوار، نحمله نسمات، ونوار، وأزهار إلى جميلة بوحيرد، جميلة الجميلات، التي بفضل كفاحها ونضالها استطاعت أن تجلب إليها وإلى الجزائر العزة والامتنان، الكرامة والسلوان. كما استطاعت في وقت قصير أن تحرك نفوس الشعوب العربية وأقلام الشعراء والأدباء والفنانين. كيف لا وقد ساهم المخرج المصري الكبير يوسف شاهين، في التعريف بها وبنشاطها الجهادي في سبيل الوطن، وهذا عندما أخرج فيلما سينمائيا عنها سنة بعد اعتقالها وزجها في السجون والأدغال.
وأعتبر الفيلم آنذاك صرخة غضب لعربي آخر سيّد وحر من أجل القضية الجزائرية. الفيلم من بطولة الممثلة القديرة ماجدة الصباحي، التي زارت الجزائر مؤخرا وجالت في أزقة القصبة تستعيد ذكريات جميلة البطولية، والممثل أحمد مزهار.
وقد أطلعت عليه آنذاك الشعوب العربية ومن وراءها على الثورة الجزائرية المجيدة. كان الشعراء العرب يكنون لجميلة كل التقدير والامتنان، كل الحب والعنفوان، بحيث حشدوا لها الألحان ونشدوا، في الليالي الطويلة، لها وللجزائر واحتضنوها في قلوبهم.
فيا روعة البحر وزرقة السماء لك مني أرقى التحيات حين تمطر الكلمات، ذكريات كفاح ليست كالذكريات. وأمجاد نصر ليست كالانتصارات. بوركت يا فانوس الظلمات يا امرأة جرحها لا يزال يصنع الأمجاد ويحفظ الحرمات، في زمن ماتت فيه الشهمات.
1) جميلة بوحيرد في شعر نزار قباني
كتب نزار قباني في ديوانه "حبيبتي" الذي أصدره سنة 1961 قصيدة رائعة بعنوان : جميلة بوحيرد، كان يسعى للتعريف بها وبوضعيتها الإنسانية، بعدما زجت في غيهب السجن ومورس عليها أبشع أنواع العذاب. واستهل نزار قصيدته بالحديث عن اسمها، علما منه أن هذا الاسم ليس ككل الأسماء، خاصة وأنه لفتاة جزائرية وقفت الند للند أمام المظليين الفرنسيين، ويبدو أنه معجب ببسالتها وبصولتها.
الاسم : جميلة بوحيرد
رقم الزنزانة : تسعونا
في السجن الحربي بوهران
والعمر اثنان وعشرونا.
عندما اعتقلت جميلة كانت في الثانية والعشرين من عمرها. عمر يعني الكثير لكثير من الفتيات، سن تشعر الفتاة فيه بأوج أنوثتها من ناحية النضج الجسدي والجمال ولو كانت أحيانا في سن المراهقة. الفتاة في مثل هذا العمر تسعى للبحث عن شريك حياتها، سواء لتؤسس معه أسرة، أو
لتلبي نزواتها الجنسية معه. لكن جميلة بوحيرد أدركت أن الوطن أهم من العريس أو العشيق. أدركت أن الواجب الوطني أسمى وأرقى من حياة اللهو والغرور، فلبت الواجب دون انتظار، واختصرت الطريق إلى الحرية، لأنها بدونها لا جدوى من الحياة في ظل الاستعمار. جميلة كانت فتاة جزائرية، ملامحها عربية.
عينان كقنديلي معبد
والشعر العربي الأسود
كالصيف، كشلال الأحزان.
جميلة امرأة ليست ككل النساء، فهي لا تخشى لا السيف ولا السياف، لا الجلاد والسجان، كانت امرأة مشبعة بروح الوطنية والهوية الإسلامية.
إبريق للماء وسجان
ويد تنضم على القرآن
وامرأة في ضوء الصبح
تسترجع في مثل البوح
آيات محزنة الإرنان
من سورة (مريم) و(الفتح)
كل شيء فيها يدل على هويتها العربية المسلمة، الشعر، العينان، القد والجسد. جميلة لم تركب قطار الأحلام، ولم تركب أفخم السيارات، ولم ترتدي الجينز، ولم تقتن أنواع الماكياج والتجميل كباقي الفتيات، ولم تجالس عشاقها في الملاهي والمقاهي الفاخرة. جميلة اختارت بقناعة سبيل الجهاد في سبيل الله والوطن. اختارت أن يكون اسمها مكتوب بحروف من لهب ونار على صفحات التاريخ، وأن تنبت تلك الحروف في قلوب العرب حب الوطن، وفي الأدب أسطورة لا تمحوها الرياح والأمواج العاتية.
الاسم : جميلة بوحيرد
اسم مكتوب باللهب
مغموس في جرح الحب
في أدب بلادي في أدبي
العمر اثنان وعشرونا
في الصدر استوطن زوج حمام
والثغر الراقد غصن سلام.
هنا أريد أن أعلق على ما قاله الدكتور المجاهد عثمان سعدي بخصوص هذه الأبيات من القصيدة، وهذا المقطع لم يورد في دراستي الأولى التي كتبتها في سنة 1995، لأنني لم أكن مطلع عليه كما على كتاب "الثورة الجزائرية في الشعر السوري"، إلاّ مؤخّرا ويقول الدكتور معلقا على الشاعر:
" وجميلة فتاة عصامية على حياة بسيطة ويردد الشاعر عبارة (العمر اثنان وعشرونا)، ليدس بافتعال واضح في هذه المرة-أحد مصطلحاته المستمدة من قاموس شعره النسائي-
ففي صدر جميلة استوطن زوج حمام، أي نهدان نضران. هل يريد أن يؤكد أن هذه الفتاة شابة كاملة من سائر الوجوه ؟ هل يريد أن يقول أنها تلجأ للنضال فتعرض بنفسها للموت، هروبا من عاهة في جسمها وإنما هي جميلة وكاملة الأنوثة ؟
عثمان سعدي لا يوافق على المعنى الشعري في البيتين الأخيرين، لأنهما في نظره لا يرمزان في المفهوم الشعري إلى بسالة ونضال جميلة، وكان من الأفضل تفاديهما بكل بساطة لأن شخصية جميلة أرقى وأسمى من ذلك المعنى الفضفاض، الذي فيه بعض من التناقض الشعري مع الموضوع.
" وعلى كل فإن القارئ يحس أن هذا البيت لا ينسجم أبدا مع سياق القصيدة، ولو استغنى عنه الشاعر لكان أفضل."
امرأة من قسنطينةْ
لم تعرف شفتاها الزّينةْ
لم تدخل حجرتها الأحلام
لم تلعب أبدا كالأطفال
لم تغرم في عقد أو شال
لم تعرف كنساء فرنسا
أقبية اللذة في (بيغال).
جميلة بوحيرد كانت بالنسبة لنزار قباني أجمل أغنية، وأطول نخلة في المغرب العربي، وكأنه يريد أن يقول أن ما قامت به هذه الفتاة الجزائرية، الشامخة، المتكبرة، الباسلة، الثائرة في وجه فرنسا، لم تقم به أي فتاة عربية أو مغاربية أخرى خلال تواجد الاستعمار الفرنسي والإيطالي بتلك الدول ؟ فهذه الفتاة بشموخها وكبريائها دوخت الجيش الفرنسي وأتعبته، لكنها لم تتعب:
الاسم : جميلة بوحيرد
أجمل أغنية في المغرب
أطول نخلة
لمحتها واحات المغرب
أجمل طفلة
أتعبت الشمس ولم تتعب.
هز اعتقال جميلة بوحيرد وسقوطها في أيدي الاستعمار سنة 1957 صدمة كبيرة، وقد ترك ذلك أثرا سلبيا في نفوس المجاهدين والمجاهدات على الأخص، وقد تصادف ذلك أيضا بالقبض في نفس السنة على المجاهدة جميلة بوعزة، مما أثار حفيظة الأحرار في العالم العربي والغربي. وبعد زجها في غياهب السجون وتعذيبها والتنكيل بها، قامت المظاهرات في أنحاء العالم، وراح الشرفاء من الفرنسيين والعرب يوقعون العرائض ويرسلون بها إلى الحكومة الفرنسية وإلى المنظمات الدولية ولجان حقوق الإنسان. وذلك لتفادي تنفيذ حكم الإعدام فيها.
قاومت جميلة كل أنواع التعذيب بثبات وصمود، رغم القسوة، المعاناة والمكابدة. وهنا يستغرب الشاعر من تصرفات المظليين الفرنسيين والسلطات الفرنسية التي سمحت بالتنكيل بسجينة ضعيفة، واستعمال الوسائل الشرسة ضدها:
يا ربي هل تحت الكوكب
يوجد إنسان
يرضى أن يأكل..أن يشرب
من لحم مجاهدة تصلب ؟
بطبيعة الحال فإن الجلاد لاكوست وجد الفرصة سانحة للانتقام من امرأة وحيدة بين أنياب النسور والكلاب، بعد عجز عن مواجهتها ميدانيا. ظل يسومها كل أنواع التعذيب المحرمة دوليا، لكن هذا الكلب وأمثاله لن يشفعوا لامرأة لا حول ولا قوة لها، فلمسات التيار الكهربائي، تعبر صبح مساء كل جسدها، من الفرج إلى حلمات ثدييها، دون رأفة ولا شفقة. حتى وهي في زنزانتها فإنها تظل محل رقابة لصيقة. جميلة كانت تدرك أنها وحيدة كالعصفورة، بين أيدي جلاديها الجبناء، والرعديد والأقزام، تحاصرها الأمطار، وبينها وبين الموت أمطار.
تواجدها بسجن (لابستيل) زادها تصميما على الصمود في وجه الأعداء حتى لا يتشفون فيها. كانت تعاني من عدم وأد كل الاعتداءات عليها، لأنها مكبلة اليدين وهذا ما كان يحزنها ويؤلمها في آن واحد، كونها من طينة النساء الشريفات المؤمنات الأحرار:
أضواء (الباستيل) ضئيلة
وسعال امرأة مسلولة
أكلت من نهديها الأغلال
أكل الأنذال
(لاكوست) وآلاف الأنذال
من فرنسا المغلوبة
انتصروا الآن على أنثى
أنثى كالشمعة مصلوبة.
كان التعذيب يمارس على نطاق واسع وبعلم من السلطات الفرنسية، التي كانت تغض البصر على تلك التجاوزات الخطيرة، بحيث وصل الحد حتى اغتصاب الفتيات السجينات. هذه الممارسات الدنيئة، والتي اعترف بها كل من الجنرال "ماسو" والجنرال "بول أوساريس" في الكتاب الذي أصدره عن حرب الجزائر بعنوان " أجهزة خاصة"،لم تحرك ساكنا لدى أصحاب القرار آنذاك، وقصة "خيرة" التي تعرضت لعدة عمليات اغتصاب متكررة في أوت 1959 وفي 19 أفريل 1960، من طرف الجيش الفرنسي وعمرها آنذاك خمسة عشر سنة، في محتشد الاعتقال بثنية الأحد، حسب ما أورده السيد سعدي بزيان في كتابه "جرائم فرنسا في الجزائر".
وهذا خير دليل على تلك الجرائم والآثام التي مورست في حق فتياتنا الشريفات. بحيث أسفر ذلك الفعل الشنيع ميلاد طفل غير شرعي تم تسميته "محمد". هذه العملية تمت ضمن ما يسمى "بعمليات شال" نسبة إلى الجنرال شال والذي شارك فيها الجنرال "بيجار" أيضا، بعدما تلقيا تعليمات من طرف الجنرال "دوغول" بقنبلة مصيف "جبال الونشريس".
ونزار قباني يدرك تمام الإدراك أن جميلة لا تستطيع أن تذود عن نفسها تلك الأعمال الشنيعة، كالملامسات الجنسية في الأماكن الحساسة وإطفاء السجائر في كل مكان من جسمها:
القيد يعض على القدمين
وسجائر تطفأ في النهدين
ودم في الأنف..وفي الشفتين
وجراح جميلة بوحيرد
هي والتحرير على موعد
ما عساها أن تفعله جميلة في مثل هذه الحالات، وهي الفتاة الدامية، المفعمة والمثقلة بالمآسي والجراح، والمسمرة فوق الخشب المفروش بالمسامير والأشواك، والسجانين يلهون بجسدها الطاهر والعفيف:
مقصلة تنصب .. والأشرار
يلهون بأنثى دون إزار
هذا المشهد، في الرسم بالكلمات، يتسم باللوعة والحصرة، بالاشمئزاز والنفور في نفسية الشاعر، الذي لا يجد بدا إلا التعبير عنه بأصدق التعابير والمعاني، مما يفضح ممارسات العدو على المساجين دون تمييز للجنس. لكن إذا اعتبرنا السجين امرأة، يصبح الفعل مذموما.
عصفور في وسط الأمطار
الجسد الخمري الأسود
تنفضه لمسات التيار
وحروق في الثدي الأيسر
في الحملة..
في..في يا للعار.
عار، حقيقة وخزي في سجل الديمقراطيات الغربية المتحضرة، ولا مانع من الخروج ولو قليلا عن الموضوع، لفضح الأعمال الدنيئة والممارسات الشنيعة التي كانت و لا تزال تقوم بها القوات الأمريكية في العراق، وخاصة ما كان يحدث في سجن أبو غريب، من اعتداءات جنسية على السجناء باسم نزع أسلحة الدمار الشامل، ونشر الديمقراطية بقوة السلاح.
لا شيء مروع كالتعذيب والتنكيل بالسجناء في سبيل الحصول على المعلومات، ونزار قباني فضح تلك الممارسات، واعتبرها عارا، في شاكلته يعكس الوجه الحقيقي للمستعمر مهما تنادى بالديمقراطية الوهمية وبالشعارات الكاذبة والمرجفة. جميلة التي ظلت ثابتة ومصممة في وجه جلاديها، وقد أصرت بعد سماعها الحكم النهائي في حقها، وأكدت لمحاميها بأنها ترفض بأن يعفو الاستعمار عنها مقابل أي ثمن من الأثمان. جميلة نفسيا كانت جاهزة للذهاب إلى المقصلة بفخر واعتزاز. كانت مصرة على أن تظل الجزائر مرفوعة الرأس، والشعب صامدا في وجه الاستعمار لأن التاريخ لا يرحم الشعوب الضعيفة. لهذا ظل اسم جميلة مفخرة العرب، واعتزازهم، وصارت الجزائر في قلب كل عربي وطنه الحبيب، وجميلة بطلة تاريخية:
الاسم : جميلة بوحيرد
تاريخ ترويه بلادي
يحفظه بعدي أولادي
تاريخ امرأة من وطني
جلدت مقصلة الجلاد..
إمرأة دوّخت الشمسا
جرحت أبعاد الأبعادِ
ثائرة من جبل الأطلسْ
يذكرها الليلك والنرجسْ
يذكرها زهَر الكبّاد
ما أصغر (جان دارك) فرنسا
في جانب (جان دارك) بلادي.
ختم الشاعر قصيدته بأروع أبياتها واعتبر أن جميلة، هذه الفتاة العربية لقنت لوحدها درسا لفرنسا لا ينسى ولا يمحى من مخيلة الشعوب الشريفة. ثورة الجزائر في نظر نزار تاريخ قابل للتجديد عبر كل جيل من الأجيال العربية، تاريخ برزت فيه إلى الوجود امرأة، ليست ككل النساء، فاقت في الشجاعة والذكاء بنات جيلها. جميلة جلدت بقوتها مقصلة الجلاد، ودوخت الشمس بصبرها على الأذى والتعذيب، وجرحت أبعد الأبعاد، بقوة إيمانها في تصديها لغطرسة العدو وأسلحته المتطورة. هذه الفتاة ما أصغر جان دارك مفخرة فرنسا أمامها. فهي الثائرة العربية الآتية من جبل الأطلس، التي سيذكرها الليلك، وزهر الكباد والنرجس.
جميلة بوحيرد في شعر رفيق الخوري
الشاعر السوري رفيق الخوري الذي ولد في المشّى بالإقليم السوري عام 1936 درس الحقوق في الجامعة السورية بدمشق، وقد عمل بعد تخرجه في حقل الصحافة والتدريس.لم أعثر لقصيدته " مذكرات جميلة بوحيرد" من ديوانه "الزنبق والدم" الذي صدر عام 1960 ببيروت، أيّ أثر لها في كتاب الدكتور عثمان سعدي " الثورة الجزائرية في الشعر السوري"، والذي لم اطلع عليه إلا في هذا العام. هذا الشاعر الكلاسيكي النفس والخط قالوا عنه النقاد ما يلي: لقد جمع في شعره بين شفافية نزار قباني، وثورية سليمان العيسى وتجديد عبد الوهاب البياتي.
ركز الشاعر في قصيدته على الأيام الثلاثة التي كان مقررا إعدام جميلة فيها. لقد حاول أن يتقمص شخصية جميلة وهي تترقب الساعة الصفر داخل زنزانتها، ساعة تبدو لصاحبها دقيقة أو ثانية. القصيدة جاءت أحداثها متسلسلة المعاني، متكاملة البنية، التي تعتبر رمز وحدة القصيدة.
السجين في ركنه، يظل إيمانه بقضيته سبيل نجاته وصموده، لذا لابد عليه أن يبقى قوي العزيمة والمبدأ وألاّ يستسلم لمنطق الذل والهوان. فالشجاعة ترعب العدو وتخيفه ما إذا قيست بعنصر المفاجئات. يصف رفيق الخوري جميلة في اليوم الأول وهو يوم الأربعاء ويقول:
سأظلّ هادئة العيونْ
سأظل غامضة العيونْ
والنّار تأكلني، ويجلدني السكونْ
والباب، والمفتاح، والدم، والجدارْ
جميلة أدركت أنها كانت على موعد مع التاريخ، كما الشهيد الذي ينتظر ملاقاة ربه، وهو واثق من الفوز بجنة النعيم. جميلة تعتبر نفسها ممثلة للمرأة الجزائرية بصفة خاصة، والمرأة العربية بصفة عامة. فالشعوب العربية تضع آمالا كبيرة عليها، لذا أيّ خطأ استراتيجيّ سترتكبه قد يؤثر سلبا عليها وعلى القضية التي ناضلت من أجلها، فلا يحق لها في ردة فعل غير محسوبة خيانة الوطن. اختارت جميلة أن تركن للهدوء، كوسيلة للتغلب على الضغط الذي ينتابها ولاسترجاع أنفاسها. كلّ شيء داخل السجن كان يجلدها، بعدم أكلت النار من جسمها النحيل. السكون مريب، والمفتاح في الباب ممر للموت والمقصلة. لا وقت الآن للرضوخ ولا للركوع، ولو كان الذين يقبعون خلف الباب الحديدي أنيابهم ملطخة بدمها الطهور.
حتّى الوجوه الفظة الحمراء تنظر في احتقارْ
كالقائد النشوان يوم الانتصارْ
الكلّ يجلدني، ويدفعني لأغرق في الصقيع
لأعيش في وحل الخيانة، في الركوعْ
جميلة من عائلة مجاهدة، ضاقت مرارة الاستعمار، بعدما حرمها من مزاولة دراستها، واغتال أفراد عائلتها وشرّد الملايين من الجزائريين وأعتقلهم. رغم المعاناة والتجشم والمرض داخل سجنها، فلقد آثرت الوقوف الند للند أمام كلّ ما هو مضر بالوطن وسلامته. من جانب آخر آمال الشعوب العربية يكتنفها الانتصار، وهي مسؤولية كبيرة ملقاة على عاتقها، ولا يحق لها تخييبها. رفيق الخوري ركز على هذا الجانب، معتبرا أن شخصية جميلة بوحيرد، شخصية قوية ببنيتها وإيمانها، بصبرها على المآسي والخطوب.
وأنا أحسّ هناك من خلف الجدار على الدروبْ
حفيف أجنحة القلوبْ
قلوب آلاف الملايين المغذة في النضالْ
كلّ القصائد والتواقيع المحبة، والصلاةْ
كلّ الأغاني والحياةْ
أحسّها..زندا، يزمجر في انفعالْ
يمتدّ عبر الموت في ليل السّعالْ
وعبر بحر منْ أفاعٍ، منْ سياط
يمتد كالعملاق، يرفعني إلى مجد الشعوبْ
في اليوم الثاني وهو يوم الخميس، يزداد الضغط وتتوالد الأفكار، وتتناسل الأشباح أفقيا داخل السجن. هذه الرقعة مظلمة الأنفاق لا تتسع للأمل ولا للرجاء في قاموس فرنسا الإجرامي. السجن بوابة المقصلة والمجد شيمة الأحرار، الذين لا يخافون الموت ولا السيف ولا السيّاف. فرنسا تدرك ذلك جيدا ذلك، لكنها تتمادى في العدوان والتعذيب والتنكيل. فرنسا تعلم أن الثورة الجزائرية برجالها لن تلين، والوطن بأبنائه المخلصين لن يموت، والاستقلال آت ولو بعد حين. يرى الشاعر أن جميلة تقاتل حتى من داخل سجنها، ملبية أصوات الرفاق، الذين بهديرهم الجبار اقتحموا المعاقل والصروح المشيدة والبروج، وهزموا فرنسا، المدججة بالأسلحة المتطورة جدا.
أصوات آلاف الرفاقْ
بهديرها الجبار تقتحم المعاقل والوثاقْ
وتصيح إنّا لا نموتْ
إنّ الجزائر لن تلينْ
ستظلّ إعصارا من الطاعون للمستعمرين
قولوا جزائرنا تموتْ
لو ماتت الاهراس واحترق الحديدْ
لو لنْ تظلّ بها صخور ولن يظلّ بها وليدْ
الشاعر واثق من انتصار الجزائر، حتى ولو دمروها تدميرا كاملا، أو أزاحوا منها الصخور والجبال، وأبادوا جموع الشعب الأبي عن الذل. فلا المجازر اليومية التي يرتكبها المستمر ستمنع الشعب من مواصلة الجهاد والنضال ومحاربة العدو، ولا الاعتقالات في صفوف المجاهدين ستضعف من عزيمته. الأمل باق والنصر آت والورد سيزهر في كلّ قبعة من أرض الجزائر، والشمس تزهر ولو من طيات المعارك والمجازر:
قلبي يقاتل من هنا
وأنا أرى
حقد البنادق والرّصاص وشعبنا
والشمس تزهر في الجزائر
من خلف نيران المعارك والمجازر.
في اليوم الثالث والأخير، وهو يوم الجمعة، الذي يعتبره يوم عيد بالنسبة للمسلمين، يسعى العدو إلى تنفيذ حكم الإعدام في حق جميلة، مدنسا بذلك قدسية المسلمين وخدش مشاعرهم الدينية، ضاربا عرض الحائط الأعراف والدين الإسلامي.
يشتد الضغط على جميلة، فساعة الحسم اقتربت، والموعد بعكس المسافات يلتوي كالذئب الشرير، والمصير آل إلى المصير، والسجان بدون ضمير، قابع خلف الباب. تتقارب المسافات في مخيلتها، وتختصر الكلمات في لعنة حذاء ثقيل، يجره، كما يجر الكلب ذيله، مظليٌّ زنديق ومارق. جميلة يؤلمها ازدراء السجان لها ولدينها واحتقاره لها، فقد سئمت وقع هذا الحذاء الذي لا يفارقها وكأن صاحبه يريد لها أن تعد كل تلك الخطوات في الصباح والمساء، خطوات سجان لعين يمارس عليها الحرب النفسية. لا تملك جميلة إلاّ التضرع إلى الله، والصبر والصلاة، لأن الصبر بوابة النصر، وما يستحق الحياة، في زمن الطغاة، وطن انتماءه الوحيد العروبة والإسلام.:
خطوات حارسيَ اللعينْ
تدقّ أرض السجن في صوت رتيبْ
وكأنها لن تستكينْ
يقودني للموت، للدم، للمصيرْ
وأنا معلقة بوقع حذائه القذر الثقيلْ
اليوم لا أدري لماذا أريد ألاّ تستكينْ
وأنا أرى قلبي تجنّح، يستطيرْ
وأرى المصيرْ
يطلّ بالناب الملطخ بالرمادْ
من فتحة الباب الحديدي الصغيرْ
فأحسّ أني كالحياةْ
وأحسّ أني لن أموتْ
جميلة من طينة الذين لا يموتون، ولا يستسلمون بسهولة لأنذالٍ سلطوا عليهم. جميلة فكرة ثابتة وجهاد مستمر ولو بعد موتها، لأن زنود رفاقها سيحمونها من السقوط لو سقطت، ولأن التاريخ سيذكرها لو استشهدت من أجل وطن لا يموت:
أنا لا أموتْ
سأعيش رغم الموت والدم والحديدْ
رغم المقاصل والجنودْ
سأعيش في تاريخ شعبي، في زنودْ
جيش الجزائر والرفاقْ.
إنّ الشهداء أحياء عند ربهم، وأحياء في قلوب الشعوب والأوطان. إن الشهيد تقام له الأعراس والأفراح في يوم استشهاده، لأن موته ببساطة ممر له نحو أبواب السماء. رفيق الخوري يعتبر كونه مسيحي، أن الشهادة في دينه رمزا للحرية أيضا، ومهما تعرضت جميلة للعذاب فإنها تتعب وترهق كل من يمد يده إليها. فهي لا تخاف جموع الجلادين الذين يتداولون عليها في السجن وخارجه، ولا تخاف زرقة أعينهم، لأنهم جبناء أمامها، تافهين ينتابهم الخزي والعار والشنار. جسدها يرعبهم ويخيفهم ببسماته وضحكاته المنبثقة من ثغر أسنانه كالثلج الأبيض. جميلة تطلب من أمها دق الأجراس، وأن يغني لها الرفقاء والشرفاء أغاني الفداء والنصر، وأن يغنوا أولا وقبل كل شيء للجزائر:
يا أمُّ دقّي اليوم أجراس الهناءْ
يا إخوتي الشرفاء غنّوا للفداءْ
للنصر، عرس الدم .. غنّوا للجزائرْ
في آخر القصيدة يصور الشاعر جميلة على أنها المسيح، الذي يموت تحت صليبه القاسي الكبير من أجل قضية إنسانية صادقة لا يشوبها الذل والعار. الليل أنفلق، والصبح أتّسق، والتفت الساق بالساق، وظن أنه الفراق، والديك يوشك أن يصيح بأعلى صوته معلنا بدية يوم جديد.
السجن يضيق بجميلة وأزيز الجدران يرهقها، تتحسس فيه خطوات السجان الحديدية وهو يمشي نحوها، لكنها تظل مبتسمة، مؤمنة بقضاء الله وقدره، تضيء رغم الظرف الصعب التي تعيشها ليل السجن ببسمتها. فجميلة الشابة اليافعة، في نظر الشاعر مستعدة لأن تشعل قلبها ليحترق الظلام وينير زنزانات سجن بربروس كله:
والديك يوشك أن يصيحْ
وأحسّ انّي كالمسيحْ
يموت تحت صليبه القاسي الكبير..
الصالبون الجالدون
أموت، والبسمات في شفتيّ زهرةْ
ستعيش فكرةْ
لأن هذي الأوجه الخرقاء تتعب من عذابي
لأن هذي الأعين الزرقاء يقتلها شبابي
وقفت كلها أمامي كلها قلق وعارْ
تمتد في وحل التفاهة والشنارْ
والخيبة الصفراء في قسماتها
وأنا أضيء الليل في سجني الرهيبْ
قلبي سأشعله ليحترق الظلامْ
يا اخوتي الشرفاء غنّوا للفداءْ
يا أمّ دقّي اليوم اجراس الهناءْ.
جميلة بوحيرد في شعر محمد الفيتوري
الشاعر السوداني محمد الفيتوري، هذا الشاعر الزنجي الجد، من أعالي بحر الغزال، وهو مصري الأم. وهو سوداني الوالد. وفوق هذا وذاك قضى الجانب الأكبر من حياته في مدينة كبيرة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط والتي لا يهدأ لها نشاط وهي مدينة الإسكندرية. وكانت بشرته السوداء تقيم بينه وبين المدينة التي يحيا فيها حاجزا كثيفا.. يحرمه المشاركة والاندماج، ويؤجج في باطنه مشاعر مريرة صفراء، ويشحذ حساسيته. صدر لمحمد الفيتوري في سنة 1967 ببيروت، ديوان شعر بعنوان "أغاني من أفريقيا" أهدى فيه إلى جميلة قصيدة بعنوان "رسالة إلى جميلة" كتبها عام 1957. كان يقف الشاعر على العتبة الأخيرة من الفئة البورجوازية الصغيرة، يمتلئ وجدانه بصراعها المرير من أجل العيش، وتمزقه قيمها المنهارة القلقة، وترددها القاتل، وتهدده هوات الشقاء التي لا تفتأ نتسع بين أقدامها بين يوم وآخر. واتخذت رحلته من الشعر مركبا لها. واستهلت سبيلها متخذة حمولتها من هذه الأجواء جميعا. حصيلة من الضياع والغربة والإحساس البالغ بالدمامة والمهانة. قال فيه "محمد أمين العالم" ما يلي: كانت أفريقيا وطنا بعيدا نائيا، كانت طريقا وهدفا. فأخذ يلونها بلون مشاعره، ويوحد تاريخه وتاريخها. لقد كانت رمزه الأكبر لخلاصه الداخلي ووسيلة للارتباط شيئا فشيئا بالواقع الموضوعي الكبير، عودة الثقة إلى نفسه، الثقة بنفسه، والثقة بالإنسان والحياة.
محمد الفيتوري قاوم العبودية، قاوم أزماته الباطنة والكامنة في نفسيته وخلع عنها صراعه المرير كونه زنجي وأفريقيي. وواكب الشاعر القوى التحررية في العالم ومنها الجزائر، التي ألهمته ثقة بالنفس، جعلته يستيقظ من ذاته الحزينة الأسيانة، ويغني لأفريقيا ولشعوبها الثائرة في وجه الاستبداد. لقد رأى شعبا كبيرا، من الشعوب الطعينة يدوس في كبرياء أصفاده وسجونه، والشمس تغسل بالنور دربه وجبينه. أعجب الشاعر بشخصية الرئيس الجزائري الأسبق بن بلة ورفاق دربه في السلاح، فغنت قريحته لهم من قصيدته "إلى بن بيلا ورفاقه"
سبع سنين، وبلاد جميلة رافعة الرايات
سبع سنين، والنار تضيء خطى الأحرار
وتمزق ليل البشرية
انّي أحني رأسي كبرا
انّي أخفضه في اكبار
فأنا افريقي
وجزائر بن بيلا افريقيه
أما جميلة بوحيرد فكانت بالنسبة له رمز كل البطولات، وحين ألقي القبض عليها وزج بها في غياهب السجون غنى لها، لأنها كانت الحمامة والحجلة التي يرغب الصيادون اقتناصها لطيبة لحمها. كانت بين جدران السجن السكران القاتل، محجلة ومكبلة القدمين لا تستطيع المرح واللعب على قدميها. الشاعر يعتبر السجن كجبهة السجان، جدرانه من حجر ومن صوان، ضرب من الحجارة كله صلابة، يتطاير منه شرر عند قدحه بالنار. فلا مناص ولا مهرب منه، ولا مفر لكل من يسكنه، خاصة إذا كانت المقيمة فيه امرأة.
لن تسمع الجدران يا جميلهْ
فالسجن مثل جبهة السجانْ
من حجر صخر، ومن صوانْ
وما الذي تصنع راحتان
نحيلتان، مستطيلتان
لامرأة صغيرة..نحيلهْ
السجن لا يسمع يا جميلهْ
إلاّ انقضاض المعاول
إلاّ دوي الزلازل
إلاّ انفجار الزلازل
السجن سكران، قاتل
وأنت لا فأس، ولات معولُ
لا خنجر ماض، ولا منجل
أنت هنا حمامة تحجل
في قدميها السلاسل
البحر لا يطل من بوابة السجن، ولا السجان قابل للإبادة في رقصة الذئاب والخنازير. الحياة في السجن كالكتابة، قفزة في الظلام ووثبة يعلوها الدخان لا تستقر فيها عقارب الساعة. لكن النهار قد يصحو من غفلة البوليس و رقصات ضباط الصف و من كوة السجن الضبابية. ربما يورق التفاح والورد، ويضيء السيل الدروب لثورة وثوار يزحفون عن بعد ويراقصون الأشباح بين السهول والألواح. كل شيء قابل للانفجار في وجه المعتدي الجبار. جميلة في سجنها تعد دقائق العقارب بدقات قلبها المستكينة، ريثما تحين ساعة الحسم والجزم، تتطلع لأخبار الثوار في الجبال والوديان:
الساعة الآن تدق الغداهْ
تدق باب الليلة التاليهْ
الساعة الواحدة..الثانيهْ
ثلاث دقات بقلب الحياهْ
ثلاث خطوات تشد الظلال
وراءها في ظلمة السجن
أيّ حياة داخل السجن
هل سألت عيناك هذا السؤال
وأنت بين السوط والقيد
فابتلّتا بأدمع الحقد
يحاول الشاعر أن يعطي جميلة أملا يكون خلاصها فيه، أمل يسكن قلب حبيب لها، أو رفيق درب يصغي إلى تنهداتها. ثائر يفك عنها قيودها ويخلي سبيلها
أم يا ترى لمحت بين الجبال
طلائع الثوار حول الجبال
وهي تسد الأفق بالأيدي
فاهتز في قلبك حب جميل
مشى حزينا فوق هذي الرمال
حب فتى جزائري نبيل
ما زال حيّا في صفوف النضال
لعلّه الآن ساهر
يرقب نور الجزائر
لعله الساعة يا جميلهْ
يصغي لتنهيدتك الطويلة
حين تدق الأذرع الثقيلة
ثلاث دقات فجائية
وزحف باب ثقيل
أشبه بالطوفان يا جميلهْ
والليلة .. الليلة صحو جميل
يلوح عن بعد من كوة السجن الضبابيّهْ
لا بد أن الصحو هذا الجميل
يلف حتى حائط السجن
لابد أنه يلف الحقول
وشجر الزيتون ملء السهول
وسعف النخل الطويل.. الطويل
وورق التفاح والورد
لابد أنه يضيء السيل
لثورة تزحف عن بعد
يصور لنا الشاعر الحياة بأنها جميلة، لأن كل من على الأرض يستحق أن يعيش في حرية واطمئنان، لكن الطغاة يحرموننا منها، فيمنحوننا دارا للشقاء والحرمان والعذاب. دار من جدران صماء لا تحسن إلا القهقهة. الظالم يحرم الآخرين من الحياة ويتغنى هو بها. سيد يحب العبيد ويكره الثائرين في وجه الاستبداد
ما أجمل الحياة يا جميلهْ
لولا جنون الطغاة
وقهقهات السجون
لأن ظالما يحب الحياة
ويكره الآخرين
لأن سيدا يحب العبيد
ويكره الثائرين
لأن سجانك يا جميلهْ
أيتها النار الجزائرية
كل جنود الامبراطوريهْ
عبر هذه القصيدة يسترجع الشاعر المعاناة النفسية الطويلة الأمد التي تعرض لها السود في السودان. فهو مسكون حتى النخاع بزنجيته ولا يخجل منها، لكنه يحوزه ما تعرض له أجداده وقبيلته في السودان. فالسادة في السودان يحبون العبيد لأنهم يطيعونهم دونما مقاومة أو انتفاضة، لكنهم يكرهون الثوار والمناهضين للعبودية. ما زال صوت تجار الرقيق يؤرقه ويعذبه، ما زال أزيز المقصلة يسكن جسمه، ولعنة القتلة والجلادين تطارده كونه زنجي. كما أن الشاعر ظل راسخا في ذهنه اجتياح القوات الفرنسية لوطنه الأم، وكتب قصيدة ينوه فيها ببطولات السلطان تاج الدين، الذي سقط شهيدا في معركة النصر سنة 1910، بعدم غزو القوات الفرنسية للسودان، وهذا ما جعله يتعاطف مع القضية الجزائرية النبيلة.
كان سبيل خلاصه من كل تلك الصور هو التغني بجميلة وبصمودها في وجه الغزاة الذين هم في نظره تجار رقيق. فهو يطلب منها ألاّ تطأطأ رأسها وألاّ تخفض جبهتها النبيلة خوفا من جنود الإمبراطورية. هؤلاء الجنود في دمائهم صراخ القتلة، قتلة أجداده وآبائه وهذا منذ مليون سنة.
الاستسلام يعني الموت المحتوم والموت ليس في صالح قضيتها، فعليها الصمود بوجه العذاب شامخة به لأنها هي قبر الإمبراطورية، أشعة الشمس الجزائرية
لا تطرقي رأسك يا جميلهْ
لا تخفضي جبهتك النبيلهْ
خوف جنود الإمبراطوريهْ
قفي بوجه العذاب
شامخة بالعذاب
لا تدعي نقمتهم تقتلك
لا تدعي رحمتهم تغسلك
إنك قبر الإمبراطوريهْ
إنك تسقين بآلامك
أشعة الشمس الجزائرية
إنك تمشين بأقدامك
فوق جلال الإمبراطوريهْ
فوق عروش قتلهْ
ما زال في